في دراسة لأوضاع الأقلية العربية في فلسطين عام 1948، منذ نشوء الدولة العبرية، يرى عزمي بشارة، في كتابه"العرب في إسرائيل، رؤية من الداخل"طبعة ثالثة مزيدة ومنقحة عن مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2008، ان الحل الوحيد ثنائية قومية: إسرائيلية وعربية - فلسطينية، مما يتيح لهذه الأخيرة التمتع بحقوقها المدنية التي يمنحها القانون الدولي لأية قومية في أي بلد، مع الإشارة الى أن هذه الأقلية هي صاحبة الأرض الأصلية وليست مهاجرة من بلد أجنبي، وهي كانت أكثرية تحولت الى أقلية بسبب الاحتلال. ومن خلال العرض التفصيلي الذي يقدمه الكاتب لمجمل تطور الوضع العام لهذه الأقلية ولإسرائيل، يمكن الاستنتاج أن الحل الذي يقترحه يبدو مستعصياً، إن لم نقل مستحيلاً، وذلك لسبب جوهري يتعلق بطبيعة الدولة العبرية التي تعرف نفسها بأنها ليست إسرائيلية بل"يهودية"، ومع ذلك يصر على هذا الحل لإنهاء مأساة هذه الأقلية، فيقدم مجموعة أفكار ومقترحات ليصبح السلام ممكناً بين الطرفين الإسرائيلي والعربي - الفلسطيني. ينتقد المؤلف كتابة تاريخ الأقلية العربية في إسرائيل باعتبارها تمثل"مفهوم البقاء على أرض الوطن والارتباط به"، لأنها تهمل التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لهذه الأقلية، ولا تبرز قضية تهميش العرب في إسرائيل في"المؤسسة والسياسة الإسرائيليتين"، لذا تجب كتابة تاريخ"أقلية تبحث عن الأمان في دولة ليست دولتها ليصبح برنامجها الوحيد القبول بالاندماج التهميشي"، وعندها يظهر البعد القومي بتعريفه الصحيح للحقوق المدنية لهذه الأقلية. وعن مفهوم"الأسرلة"، الذي يتردد كثيراً في الكتاب يقول المؤلف:"إن الأسرلة كخيار ثقافي - سياسي معناها التهميش، أي أن تحكم على نفسك بأن تعيش بلا هوية أصلية على هامش مجتمع يحوّل التهود الديني أو الوطنية العسكرانية الى مقاييس الانتماء الى المجموع". وعلى رغم أن الفلسطينيين العرب في إسرائيل حصلوا في كانون الثاني يناير 1949 على الحقوق الليبرالية للمواطنة"أي إقامة دائمة وإمكان التصويت في الانتخابات"، فإن مرحلة 1947 - 1967، كانت مرحلة عزلة لهذه الأقلية، كما يصفها الكاتب، إذ أن علاقة المواطن الإسرائيلي بالدولة العبرية ومؤسساتها كانت تمر عبر الأجهزة الأمنية الساهرة على"السلوك السياسي الحسن"، وأصاب القرية الفلسطينية التهميش لحساب تطوير وتحديث وحتى توسيع المدينة الإسرائيلية،"وتحولت القرية الى مكان نوم لا الى سوق، والى ملجأ وجداني يتيح العودة الى أحضان العلاقات الاجتماعية، وأضحت الوطن المحسوس للغرباء"، وغاب عنها المركز الثقافي الموحد والجامعة والمكتبة الوطنية والمسرح القومي ودار النشر، وانحصرت الصلة بالعالم العربي الواسع والعالم الخارجي بأجهزة الراديو، كما غاب المجتمع القروي والطبقة الوسطى المبلورة حول مطامح سياسية ومشروع سياسي قومي. "إن غياب المدينة يعني غياب المجتمع المدني". والنتيجة التي يستخلصها بشارة في ما خص هذه المرحلة هي أنه كان على المواطن العربي في فلسطين أن"يسير على حبل دقيق بين الانتماء الى الأمة العربية وبين الشعور بالضعف المقترن بمطمح تحقيق الأمن في إ طار دولة إسرائيل"، والسبب عدم وجود"قيادة قومية أو نخبة قومية في وسعها أن تصوغ للعرب في إسرائيل وعي أقلية قومية". يعتبر الكاتب أن 1967 كان عاماً مفصلياً بالنسبة الى العربي الفلسطيني في إسرائيل على رغم الهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية، فهذا العام كان البداية الحقيقية"لتكتل أفراد هذه الأقلية كمجتمع له ما يميزه". ويذهب أبعد من ذلك في إبرازه أهمية هذه الحرب، ليس للفلسطينيين في إسرائيل فحسب، بل للعالم العربي فيقول:"كانت هذه الحرب أهم حدث في تاريخ المنطقة الحديث بعد الحرب العالمية الثانية ...، إسرائيل بعد 1967 غير ما كانت قبلها..."في شتى الميادين الاقتصادية - العسكرية والسياسية - الاجتماعية فهي، أي هذه الحرب"ثبتت نتائج حرب 1948 وجعلتها غير قابلة للتغيير..."، والوطن العربي أيضاً هو"بعد 1967 غير الوطن العربي قبلها...". أما أهم نتائج الحرب على صعيد القضية الفلسطينية فهي: 1 - ولادة منظمة التحرير الفلسطينية القائمة على أطر تؤمن بالنضال المسلح ضد العدو الإسرائيلي. 2 - بداية اتخاذ الحركة القومية الفلسطينية مساراً مستقلاً عن الدولة العربية، وضعف فكرة الاعتماد على الوحدة العربية... 3 - ازدهار اقتصاد مناطق 1948 نتيجة التفاعل مع اقتصاد المناطق المحتلة الجديدة، ما أدى الى تشجيع المواطن الفلسطيني في إسرائيل على لعب دور الوسيط، في الميدان الاقتصادي، ما بين السلطة المحتلةوالفلسطينيين، ساعدته في ذلك معرفته للغة العبرية. 4 - إعادة التواصل العائلي والاجتماعي بين مناطق 67 ومناطق 48... 5 - بروز الحزب الشيوعي الإسرائيلي كقوة داعمة لفلسطينيي 1948، الى حد ما، في مطالبتهم بحقوقهم المدنية، الى جانب بروز التكتلات السياسية الفلسطينية المنظمة للدفاع عن حقوق الأقلية التي ينتمون إليها. من أهم الأحداث التي يسجلها الكاتب في هذه المرحلة"يوم الأرض"في 30 آذار مارس 1976 إذ شكّل هذا اليوم أول مواجهة عنيفة مع السلطة الإسرائيلية رداً على محاولة تهويد الجليل والمثلث بمصادرة ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، ورأى بشارة في هذا اليوم"توحّد العنصر الحقوقي - المدني والعنصر القومي"، مع الإشارة الى أنه كان الحدث الأول والأخير وقامت على رموزه وذكراه الاحتفالات السنوية"فلم يكرر ذاته إلا كذكرى". والحدث المهم الثاني الذي يسجله المؤلف في ما خص الأقلية العربية في إسرائيل، في نهاية السبعينات، كان انكسار نظام الحزب الواحد في إسرائيل وتحوله الى نظام الحزبين فأصبح لهذه الأقلية أهمية ما في الخريطة السياسية الإسرائيلية، واتسع هامش المناورة لديها مما حدا بأحد السياسيين الإسرائيليين اليمينيين امنون لين انتقاد هذا الوضع بقوله:"في الأعوام الأخيرة أصبح حزبا"الليكود"و"العمل"أكثر استعداداً للتضحية بمصالح إسرائيل الحيوية في خدمة مصالحهم الحزبية الضيقة"، وبرزت أهمية الأحزاب العربية وأصبح التصويت لها ليس احتجاجياً فحسب"بل أصبح له أيضاً وجه إسرائيلي، على الأقل، من أجل منع صعود حكومة يمينية". على أهمية هذه التغييرات التي حصلت في وضع هذه الأقلية، فإنها بقيت عاجزة عن إلغاء التمييز اللاحق بالمواطنين العرب في إسرائيل، ويتمثل هذا التمييز، كما رآه الكاتب بما يأتي: أولاً: إنه تمييز موجه ضد السكان أصحاب الأرض الأصليين الذين تحولوا بفعل الممارسات الإسرائيلية العدائية من تهجير قسري وتدمير قرى ومصادرة أرض، من أكثرية الى أقلية"فامتزجت مشاعر العنف بمشاعر فقدان الوطن". ثانياً: تحول حال العداء للعرب الى عنصرية ضدهم في الشارع وفي المؤسسات وفي الميادين الأخرى. ثالثاً: النظر علناً الى العرب ك"خطر ديموغرافي"يهدد جوهر الدولة كدولة يهودية لا كدولة إسرائيل. أما في الطرف المقابل، فإن اهتمام حكام إسرائيل توجه الى مفهوم"الدولة اليهودية"، ليس كدولة تشمل المواطنين اليهود داخل حدودها، بل هي الناطقة باسم جميع اليهود المنتشرين في مختلف بلدان العالم والمدافع الأول عن مصالحهم، وهي الدولة الوحيدة التي يمارس فيها التطابق في شكل كامل بين الدين والقومية كما عرفتها الحركة الصهيونية، و"يتم فيها اتباع معايير وأدوات دينية لفحص الانتماء الى هذه القومية". وينشغل القادة الإسرائيليون بالسؤال:"من هو اليهودي؟"وليس"من هو الإسرائيلي؟". اهتم قادة إسرائيل باكراً بموضوع"يهودية"الدولة العبرية، فقانون العودة الصادر عام 1950 نص على أن من"حق كل يهودي أن يهاجر الى البلاد"وأن"اليهودي هو من ولد لأم يهودية أو تهود وهو ليس تابعاً لديانة أخرى". ثم يستعرض الكاتب النقاشات التي دارت، في مراحل لاحقة، حول توضيح وتركيز هذه المفاهيم. لكنه يرى أن الاهتمام بدأ يزداد، أخيراً، فالقانون الصادر عام 1992 حول"كرامة الإنسان وحريته"يورد ما يأتي:"هدف هذا القانون الأساس هو الدفاع عن كرامة الإنسان وحريته من أجل تثبيت قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية"، وقانون حرية العمل الصادر في العام نفسه جاء فيه أن الهدف هو"الدفاع عن حرية اختيار العمل، ومن أجل تثبيت قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية"، وحتى يهودية إسرائيل أصبحت مسألة دولية بعد أن تبنت الولاياتالمتحدة هذا المطلب، إذ جاء على لسان الرئيس بوش في مؤتمر العقبة في 4 حزيران يونيو 2003 ما يأتي:"اليوم، أميركا ملتزمة بقوة بأمن إسرائيل كدولة يهودية مفعمة بالحيوية". وتتخذ النقاشات البرلمانية والقرارات الصادرة عن المحكمة العليا في إسرائيل، وحتى في المفاوضات التي تجريها إسرائيل مع السلطة الفلسطينية في شأن القطاع والضفة المنحى نفسه. يعتقد بشارة أنه في حال وجدت قضية الضفة والقطاع حلاً مرضياً للفلسطينيين فليس ضرورياً أن تحل قضية الأقلية العربية في إسرائيل، لذلك يستخلص النتيجة الآتية: "أصبحت هنالك حاجة ملحة، لا تحتمل التأجيل لطرح المشروع الوطني المتعلق"باعتبار الأقلية العربية في فلسطين أقلية قومية هي جزء من الأمة العربية والشعب الفلسطيني"،"وكمواطنين في دولة إسرائيل يتوقون الى المساواة التامة غير المنقوصة، من أجل بناء مجتمع تسوده القيم السياسية المتنورة والديموقراطية...". ولتحقيق هذه الرؤية يطرح المؤلف مفاهيم جرى التوسع فيها ومناقشتها في الكتاب أهمها: المساواة والهوية والأقلية الفلسطينية ومسائل الطائفية والأبعاد الطبقية... لتكون أسساً لحل قضية الأقلية الفلسطينية في إسرائيل. * كاتب لبناني