ظهرت الدولة المصرية في صورة "راعي الثقافة" منذ تأسيس وزارة الثقافة في خمسينات القرن الماضي، الأمر الذي دفعها لإقامة علاقة"شبه أبوية"مع المبدعين ووقعت هذه الصورة ضمن سياسة"الهيمنة"التي تقوم على استقطاب المثقف أو استخدامه في أجهزتها الرسمية، بما يضمن لها القدرة على السيطرة والتحكم في مجالات الإنتاج الثقافي وتوزيعه، إضافة إلى احتكار فضاءات الإنتاج والعرض والتسويق. ومنذ نهاية التسعينات تعرضت هذه السياسة لشكل من أشكال الاهتزاز بعد أن وجد الفنانون والكتاب الراغبون في التحرر خيارات بديلة عبّرت عن نفسها أولاً في الازدهار الواضح لنشاط دور النشر الخاصة التي تعمل في مجال نشر الإبداع الأدبي، إلى جانب توافر المزيد من فضاءات العرض المستقل التي ظهرت بمبادرات من ناشطين يعملون في مؤسسات المجتمع المدني المعنية بالمجال الثقافي استناداً إلى التمويل الذي وفرته بعض المراكز الثقافية والمؤسسات الأجنبية التي زاد اهتمامها بالمنطقة العربية بعد حرب الخليج. وفي هذا السياق نجحت مؤسسات المجتمع المدني في أن توفر للمبدعين فرصاً للإنتاج والعرض لم تكن متاحة من قبل وساعدها على ذلك تراجع النظرة المتشككة في نياتها ومصادر تمويلها بالقياس إلى ما ساد خلال الثمانينات عندما عانت تلك المؤسسات الكثير، وهي في صدد إثبات جدية خطابها الذي وصل الآن إلى مرحلة"اعتراف"مكنته من التعاون مع المجموعات المستقلة التي تعمل في المجال السينمائي أو المسرحي. وقد ساعدت في بناء شبكة متينة من التحالفات الإقليمية والدولية في إطار معولم ضمن لها التخطيط لبرامج فنية طويلة الأجل، أوجدت لتلك الجماعات فرصاً أخرى لتقديم إنتاجها في مهرجانات فنية داخل مصر وخارجها. وبدا واضحاً أن الجمهور الذي يرتاد هذه الفضاءات الجديدة في معظمه من الشباب الأكثر انفتاحاً على التجليات الثقافية"للغرب"بكل ما تحمل الكلمة من تبسيط وتعسف"بمعنى الاستمتاع بأشكال من التعبير الفني في مجال الموسيقى أو السينما، وكذلك أنماط من الحياة أبعد ما تكون عن أنماط حياة شباب الطبقات الوسطى المحافظة أو متعلمي الريف، فضلاً عن تمتعه بعلاقات منفتحة الى أبعد الحدود بين الجنسين. وهو جمهور ربما كان هو ذاته الجمهور المنخرط في أشكال الاحتجاج السياسي كما جرى التعبير في تظاهرات حركة"كفاية"والحركات التي نتجت منها، وهو انجذاب يراه أحد الباحثين طبيعياً حتى انه يفسر ارتباط هؤلاء الشباب ب"كفاية"تحديداً لكونها الحركة الأقرب الى نمط التعبئة الشبابية على الطراز السائد في عدد من بلدان أوروبا الغربية في تجمعات مناهضة للحرب والعولمة. وتعد"ساقية عبدالمنعم الصاوي"الموجودة في حي الزمالك الراقي في وسط القاهرة هي الفضاء الأبرز بين كل فضاءات العرض التي عرفتها مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة. فهي تكاد اليوم تلعب دوراً أهم من الأدوار التي تلعبها وزارة الثقافة المصرية بهيئاتها المختلفة. فهذه البؤرة يرتادها في اليوم الواحد ما لا يقل عن 1500 زائر معظمهم من الشباب يأتون لحضور العروض الفنية والندوات التي تقدم في شكل متوازٍ وفي أكثر من قاعة وتخاطب بما تقدمه أذواقاً متنوعة. والحاصل أن هذا المكان بات مركزاً ثقافياً مهماً يقوم على رهان أساسي هدفه تحقيق التنمية المجتمعية وإحياء روح المبادرة وإطلاق حملات التوعية. أطلق فكرة تأسيس المكان المهندس محمد عبدالمنعم الصاوي الذي كان ينفذ مشروعاً إعلانياً لشركته التي تعمل في مجال الدعاية والإعلان، ولاحظ أن مساحة كبيرة تحت جسر 15 أيار مايو في المسافة الفاصلة بين ضاحية الزمالك وضاحية المهندسين، تستعمل كمكب للقمامة ويرتادها بعض متعاطي المخدرات والمشبوهين. لذا فكر في استغلال المساحة عبر تأسيس مركز ثقافي متكامل يحمل اسم"الساقية"، وهو اسم مستوحى من عمل روائي لوالده الذي شغل منصب وزير الثقافة في منتصف سبعينات القرن الماضي. قام باستئجار الأرض من محافظة القاهرة لفترة طويلة الأجل، وبنى المركز بكلفة بلغت مليون دولار تقريباً، وافتتح في شباط فبراير 2003. تتكون"الساقية"حالياً من مكتبة عامة للكبار والصغار، و7 قاعات للنشاطات الأدبية والعلمية والمسرحية ومعارض الفنون التشكيلية والصور الفوتوغرافية. وتتسع أكبر قاعة ل 650 متفرجاً مع إمكان مضاعفة عدد المقاعد لاستيعاب أنشطة المركز التي تشمل الندوات والمعارض والعروض المسرحية والسينمائية. وتهتم"الساقية"بنشر ثقافة المصادر المفتوحة عبر تعليم اللينكس وبرامج البرمجة اللغوية والعصبية، إضافة إلى مجموعة من النشاطات الاجتماعية وحملات التوعية الجماهيرية. ويجرى العمل في المكان مع شباب متطوعين، ولكن بالنسبة إلى التنفيذ الفعلي للبرامج يتم الاعتماد على متفرغين، يُدرَّبون داخل برنامج اعتمدته"الساقية"للإدارة الثقافية باسم"الأكاديمية"ومدته 6 أشهر ليخرجوا بخبرة كاملة. تقوم أنشطة"ساقية الصاوي"على مجموعة من الأفكار التي يقف وراءها محمد الصاوي الذي لا يتردد في الإشارة إلى إيمانه المطلق بفكرة"خصخصة الثقافة وأهمية أن ترفع الدولة يدها عن الانشطة الثقافية". وانطلاقاً من هذه الفكرة يعتمد المكان في تمويله على التبرعات والاشتراكات السنوية لأعضائه الذين يتجاوز عددهم عشرة آلاف عضو. وبحسب إحصاءات على موقع"الساقية"على الانترنت، يتردد على المركز شهرياً أكثر من 20 ألف زائر، ويرتاد الموقع الإلكتروني نحو 150 ألفاً شهرياً. قيمة الاشتراك 20 جنيهاً سنوياً اربعة دولارات مقابل الحصول على خفض في أسعار تذاكر الحفلات الفنية وخدمات الاستعارة والانترنت في المكتبة. وإضافة إلى ذلك هناك مصادر للتمويل الذاتي منها إيرادات الحفلات التي يجرى اقتسامها مع الفنانين. غير أن المصدر الرئيس للتمويل يأتي من"الرعاة"، إذ تساهم في رعاية المركز مجموعة من الشركات الكبرى وبعض المصارف التي تقدم دعماً إعلانياً ومالياً غير معلن، لكنه لا يتوافر بالكيفية نفسها إلا للهيئات الرسمية. ومن الأمور التي أعطت للساقية ميزة إضافية لا تتوافر في المؤسسات الخاصة الأخرى، رفض صاحبها التمويل الأجنبي، لكنه في المقابل لا يرفض التعاون مع المؤسسات التي تتلقى تمويلاً أجنبياً أو المراكز الثقافية الأجنبية. وعندما يجري اليوم تقويم عمل"الساقية"لا بد من الإشارة إلى أنها نجحت في جذب أو استقطاب جمهور متنوع غالبيته من الشباب بفضل قدرتها على تنظيم برامج منوعة تعبر عن الأطياف الإبداعية والثقافية كافة، وتتسم بالجاذبية وتحقق فكرة"ديموقراطية الثقافة"، وتعلي من قيم المواطنة وثقافة العمل الطوعي، مع قدرة لافتة على توفير برامجها الفنية بأسعار مخفّضة تضمن تثبيت التحالف المبكر الذي ربط المكان بالأجيال الجديدة وثقافات العالم المختلفة. وبفضل هذا النجاح، جذب المكان أسماء ذات سمعة عالمية وعربية لتقديم محاضرات أبرزها الروائي البرازيلي باولو كويلهو، والمفكر الأميركي نعوم تشومسكي والموسيقي اللبناني مارسيل خليفة والشاعر البحريني قاسم حداد. ومن ناحية أخرى أكدت تجربة"الساقية"جملة من الظواهر الثقافية المستقلة ودعمتها، لا سيما ما يتعلق بدعم أنشطة الفرق الموسيقية والمسرحية الحرة التي كانت تعاني مشكلات في العرض بسبب التعنت البيروقراطي في فضاءات العرض الرسمية. وتمكنت"الساقية"من الانفتاح على ثقافات محلية كانت تعاني تهميشاً واضحاً خصوصاً ثقافات النوبة وفنونها، مع الانفتاح على تجارب فنية عالمية تتسم بالتنوع الخلاق بما يكسر هيمنة الثقافة الواحدة. وفي هذا السياق قدمت"الساقية"عروضاً لفرق تقدم موسيقى الجاز والراب والهيب هوب والموسيقى السودانية وموسيقى الغجر وغيرها. وإذا كانت"الساقية"ولدت في مناخ استثنائي في الثقافة المصرية ينتصر اجمالاً لأشكال العمل، إلا أن الصورة بعد خمسة أعوام من العمل لم تعد ناصعة كما كانت، إذ يبدو للبعض أن القائمين على المكان ربما بدافع تشجيع الهواة بدأوا في قبول كل ما يعرض عليهم من أعمال، مع غض النظر إلى مستواها، الأمر الذي أدى إلى تراجع المستوى في عدد من العروض. إلا أن آخرين يدافعون عن هذا التنوع ويرونه ضرورة على الأقل باسم"ديموقراطية الفن"وهو شعار يرفعه المكان، وفق رؤية ترى أن الثقافة رسالة تهدف إلى ترقية النفس والدفع بها إلى الأمام. وتواجه هذه الرؤية جملة من الانتقادات، خصوصاً أن إدارة المكان لجأت في مجموعة من الوقائع إلى تبني سياسات رقابية"متشددة"أو محافظة تثير قلق من كانوا يراهنون على المكان باعتباره فضاء للثقافة البديلة. عبد المنعم الصاوي أمام المكان الذي انشىء فيه المركز