بعد مرور 85 سنة على إعلانه الجمهورية و70 سنة على وفاته، بدأت على استحياء أخيراً محاولات للاقتراب من مصطفى كمال أتاتورك لإعادة اكتشاف شخصيته من خلال أعمال أدبية أو درامية تتخللها سجالات فكرية حامية الوطيس. وأحسب أن تطورات محلية ودولية عدة كان لها بالغ الأثر في تهيئة المناخ لبروز مثل هذا التوجه داخل تركيا، لعل أبرزها، ترسخ قيم الديموقراطية والحرية والتعددية في المجتمع التركي بعد أن كانت ملامحها بدأت بالبزوغ عقب وفاة أتاتورك في العام 1938 ثم تمت مأسستها في العام 1950 حينما أجريت أول انتخابات تعددية تضم غالبية ألوان الطيف السياسي التركي. وتلت ذلك تحولات فكرية وثقافية عالمية في إطار ما عرف بالثورة المعرفية الكونية التي أفضت إلى انتهاء عصر الأنساق الفكرية المغلقة وأفول حقبة عبادة الفرد والقادة الأسطوريين، الأمر الذي حرّك نزعات النقد الذاتي لدى فئات تركية عدة، جاء في صدارتها الشباب الذين درس الكثير منهم في الخارج ولم يعاصروا بطولات أتاتورك وانتصاراته لكنهم تشربوا حب"القائد العظيم"من التعليم والإعلام منذ المرحلة ما قبل الابتدائية، فهو الذي حرر البلاد من المحتلين الأوروبيين وأقام جمهوريةً علمانية قومية موحدة على أنقاض دولة الخلافة الإسلامية. وتنتشر تماثيل"الغازي"أو الفاتح الخالد في كل مكان في تركيا وتعد صوره بمثابة العلم الثاني للبلاد، كما أن اسمه يتردد في النشيد الوطني التركي الذي يقول في جزء منه:"أتاتورك العظيم، أقسم لك أن أسير بلا توقف على الطريق الذي مهدته وللمبتغى الذي اخترته، أملاً في أن يكون وجودي هدية للأتراك". بيد أن تلك الأجيال الجديدة بدأت تعايش التداعيات السلبية لسياسات أتاتورك وقراراته في المشاكل الإثنية والثقافية كالحجاب والأرمن والأكراد وقبرص والعلاقة مع أوروبا وغيرها, الأمر الذي دفع هؤلاء إلى المناداة بإعادة تقويم تجربة هذا القائد والتعاطي مع سيرته كإنسان لا كأسطورة أو كقائد مقدس. بكلمات أخرى، يمكن القول إن تعاطي الأتراك بشيء من التقديس مع إرث أتاتورك وعدولهم عن النظر بموضوعية إلى تجربته حالا دون إدراكهم في وقت مبكر حقائق وأزمات كثيرة طالت هويتهم ومستقبلهم ولم ينتبهوا لها إلا بعد أن تفاقمت وشكلت حائط صد منيع اصطدموا به فأفاقهم من سباتهم الطويل، بعد أن لم يحققوا نتائج ملموسة على صعيد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والانبعاث المتجدد لمشكلات إثنية وقومية معقدة قمعها أتاتورك لكنه لم يضع نهاية لها، ما أضطر قطاعاً من الشعب التركي للتساؤل عن حقيقة تأثير تجربته على بنية الدولة التركية ومستقبلها، ومن ثم تبلورت مطالبات بالإفراج عن الوثائق السرية التي تخص حقبة أتاتورك توخياً لإعادة قراءة تاريخه بعين مغايرة ومحايدة في آن. ولطالما قوبلت في ما مضى أية محاولة ترنو إلى أنسنة أتاتورك وتنزيله من مرتبة القديسين أو أصحاب المعجزات إلى مرتبة البشر العاديين، برفض صارم من قبل جهاز الدولة وأنصار أتاتورك نفسه. ففيما يجرم القانون التركي إهانة ذكرى أتاتورك، التي حوكم بسببها كثير من المثقفين والعامة، أوردت صحيفة"تركش دايلي"العام 2007، أن الأتراك لا يريدون أنسنة صورة مؤسس جمهوريتهم، الذي يرفعونه إلى مرتبة القديسين ويأبون أن يروا مثالبه. وبعد نحو قرن من الوجوم وإطباق الشفتين، يسعى مريدو أتاتورك إلى رسم ابتسامة على وجه صوره وتماثيله، ومن المتوقع أن تتداول الأسواق التركية، في مطلع 2009 عملة تركية تحمل صورة أتاتورك مبتسماً غير عابس ولا مقطب الحاجبين. وكسابقاتها، ووجهت المحاولات هذه الأيام للاقتراب من"التابو"الأتاتوركي بالرفض الصارم ذاته، إذ وجه الادعاء العام التركي يوم 19 آب أغسطس من عام 2006 تهمة"إهانة مؤسس تركيا الحديثة"إلى إيبك تشالشلر، الصحافية السابقة في جريدة"جمهورييت"التركية الواسعة الانتشار، بسبب تحريرها كتاباً بعنوان"لطيفة هانم"في العام ذاته. ويعد ذلك الكتاب أول سيرة ذاتية شاملة تسرد حياة الزوجة الأولى لأتاتورك خلال الفترة من 1923 إلى 1925وتتناول علاقتها به. واستندت تشالشلر إلى كتابات أميركية كانت تهتم بمشوار حياة لطيفة هانم, إلى جانب مقابلات مع بعض ذويها وأصدقائها المقربين ممن بقوا على قيد الحياة, ثم بعض الوثائق والكتابات التركية القليلة المتاحة عنها. ومما استفز أنصار أتاتورك في هذا الكتاب إظهاره إياه كإنسان عادي يحب ويغضب ويتخلى عن محبوبته ثم يبكي فراقها. إذ أوردت الكاتبة أن أحد أصدقاء مصطفى كمال المقربين في قصر الرئاسة أخبرها أنه بعد أن طلق لطيفة هانم العام 1925 كان مكتئباً ويبكي لفراقها، حتى أنه تبنى خمسة أبناء وعين مربيات لهم، ليملأ الفراغ الذي تركته في حياته. وتؤكد الكاتبة أن أتاتورك تعرف بعد ذلك الى سيدة تركية تدعى فكرية عاش معها ولكنه لم يتزوجها. وتورد تشالشلر أن لطيفة هانم كانت ثاني أقوى شخصية في الجمهورية التركية، حتى أنها أوعزت لأتاتورك بإصدار قوانين المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق السياسية كقانون منح النساء التركيات حق الانتخاب والترشح في الانتخابات البلدية العام 1930، ثم قانون منح النساء حق الانتخاب والترشح في البرلمان العام 1934. ولم تكن لطيفة تنادي أتاتورك إلا مصطفى أو كمال ولم تناده يوماً بالباشا أو أي لقب آخر. كما أرادت أن تكون عضواً في البرلمان, غير أن أتاتورك عارض ذلك بشدة، وهو ما اعتبرته لطيفة غيرة منه. وتؤكد الكاتبة أن لطيفة تركت مذكرات ومراسلات وأوراقاً شخصية بخط يدها عن مسيرة أتاتورك وعلاقتها به، وقبل وفاتها مباشرة وضعت هذه الأوراق في حقيبة وحفظتها في صندوق سري في أحد البنوك. وبعد وفاتها قام البنك بتسليم هذا الصندوق إلى مؤسسة التاريخ التركي، ولا تزال هذه الأوراق محفوظة في المؤسسة ولم يسمح لأحد من خارجها بالإطلاع عليها. وفي العام 2003، وبعد أن انقضت الفترة الزمنية التي كان مقرراً فتح الصندوق بعدها، أراد الرئيس التركي السابق أحمد نجدت سيزر الاطلاع على ما فيه، لكن المؤسسة لم تسمح له بذلك. ومن جانبها أرجعت الكاتبة عدم الإفراج عن مذكرات لطيفة هانم إلى حرص الدولة التركية على صورة مصطفى كمال، إذ تخشى من أن يؤدي الإطلاع عليها والتعرف الى جانب مهم من حياة أتاتورك عبر رواية امرأة مطلقة مجروحة في شخصها وطموحاتها بعد أن كانت أقرب المقربين منه، إلى تشويه صورة الزعيم"الملهم والخالد"، خصوصاً أن لطيفة هانم هي التي طلبت الطلاق منه ثلاث مرات. ولقد أوردت الكاتبة في كتابها أنه عندما واجه أتاتورك محاولة لاغتياله من خصومه وهو داخل القصر الجمهوري، نصحته زوجته لطيفة بأن يتنكر بزي امرأة، وأخذ أتاتورك بنصيحتها ونجا من الاغتيال. وفي مسعى منها لإبراز أهمية مذكرات لطيفة هانم، تؤكد مؤلفة الكتاب أن مؤرخاً تركياً كبيراً من مؤسسة التاريخ توفي العام 2005 كان قد اطلع على هذه الأوراق وقال إنه:"من دون قراءة هذه الأوراق, لا نستطيع كتابة تاريخ حرب التحرير، وميلاد الجمهورية التركية". وبعد صدور كتاب"لطيفة هانم"بعام واحد وتحديداً في العام 2007، ظهرت محاولة أخرى للاقتراب من"التابو"الأتاتوركي عبر الفيلم الوثائقي"مصطفى"، الذي يتناول في ساعتين حياة أتاتورك ويسلط الضوء على جوانب إنسانية كانت خفية في شخصيته، والذي كتبه وأخرجه الصحافي جان دوندار. واستغرق إعداد الفيلم تسعة أشهر وبلغت كلفته مليون يورو. واستند دوندار في شريطه الوثائقي إلى مختارات من يوميات أتاتورك ورسائله، التي كانت إلى وقت قريب محفوظة في الأرشيف العسكري السرّي. ولقد أثار فيلم دوندار جدلاً فكرياً وسياسياً حاداً داخل تركيا. فعلى رغم أن دوندار ليبرالي علماني من محبي أتاتورك ودافع عنه في أفلام عدة أشرف عليها من قبل أهمها"صاري زيبك"، بدأ الهجوم على الرجل منذ اليوم الأول للعرض. ومن عنوان الفيلم كانت البداية، إذ اكتفى دوندار في إشارته لأتاتورك باسمه الأول"مصطفى"من دون أتاتورك أو باشا أو غير ذلك من الألقاب، الأمر الذي اعتبره أنصار الزعيم الراحل استهتاراً به وتقليلاً من شأنه. في حين أن دوندار يرى أن العنوان جاء منسجماً مع مضمون الفيلم الذي حاول أن يقدم للمشاهد مصطفى كمال الإنسان، مقابل أتاتورك البطل الأسطوري. كذلك، هوجم دوندار بشدة بسبب مضمون فيلمه، الذي سلط الضوء على مثالب أتاتورك أكثر من إبراز ميزاته كبطل حروب التحرير وكشخصية فذة شجاعة أسست تركيا الحديثة، فالفيلم يظهره كرجل يحب اللهو، مولع بالنساء والعشق، مدمن للخمر والتدخين، متردد وقلق، متخلياً عن أصدقائه وأحبائه، يخشى النوم في الظلام ويميل إلى الوحدة والانعزال والحزن. وفي حين رحبت قطاعات من الشعب التركي بفيلم دوندار خصوصاً في أوساط الشباب والكتّاب والمثقفين من أمثال الكاتب اليساري باسكن أوران، والصحافي محمد علي بيرون، اللذين رأيا أن دوندار أطلق سراح تركيا من سجن ذهبي حبست نفسها فيه لعقود، جاءت أشد ضروب الهجوم على دوندار من القوميين المتشددين الذين لم يتوانوا عن اتهامه بالعمالة للقوى الخارجية التي تريد تحطيم تركيا من خلال الحط من شأن رموزها القومية. فيما اتهمه آخرون بأنه أحد أنصار ما يسمى"بالجمهورية الثانية"في تركيا، وهي التسمية التي تطلق على مجموعة من المفكرين والإعلاميين والمثقفين الأتراك الداعين إلى قراءة أكثر واقعية في التعامل مع الإرث الأتاتوركي. كذلك، تقدم أستاذان جامعيان ببلاغ بحق دوندار أمام النيابة مطالبين بوقف عرض فيلمه، وعزله أو نفيه على نحو ما جرى مع الروائي الشهير أورهان باموك. ومن زاوية أخرى، بدا فيلم دوندار وكأنه يؤذن بمنعطف كبير في شأن الإرث الأتاتوركي في بلد تحكم الحكومة فيه قبضتها على الوثائق التاريخية والأرشيف الرسمي. فمثل هذا الاقتراب الحذر من"تابو"أتاتورك إنما يعد محاولة جادة لأنسنته وإزالة الهالة المضروبة من حوله، ما من شأنه أن يحرر قطاعات تركية من براثن الصورة الذهنية الأسطورية المتوارثة عنه توطئة لإعادة اكتشافه وتقويم تجربته في شكل موضوعي، خصوصاً في ظل نضج التجربة الديموقراطية التركية وإفرازها أجيالاً جديدة تنشد التغيير وتجنح إلى تفكيك المسلمات والأنساق الفكرية المغلقة وعقلنة الرويات التاريخية. لا سيما أن تداعيات سياسات أتاتورك وتجربته بدأت تبرز على نحو فج هذه الأيام مع تفاقم المشاكل الإثنية وتضخم مشكلة الهوية في الدولة التركية، حيث تراءى للمؤرخين الجدد في تركيا أن التعاطي مع ماضيهم بموضوعية وشجاعة، هو السبيل الأمثل لتجاوز تداعياته المؤلمة على حاضر بلادهم ومستقبلها. وأذكر أنني لمست بنفسي الشيء ذاته إبان زيارة قمت بها لتركيا تزامنت والاحتفال بالذكرى السبعين لوفاة أتاتورك، التقيت خلالها كُتّاباً وأكاديميين ومواطنين عاديين أتراك وشباباً من خلفيات ثقافية وأصول اجتماعية وتوجهات فكرية مختلفة، وقد بدا لي من خلال محاوراتي معهم، والتي لم تخل من إشادات متفاوتة التقدير لهم بما تحقق على يدي أتاتورك من إنجازات، شيئاً من سأم ورفض واضحين يعتملان بداخلهم حيال ذلك"التابو"الأتاتوركي، الذي حال طيلة عقود، من وجهة نظرهم دون الاستفادة من مناخ الديموقراطية الراهن في النظر بعين فاحصة وموضوعية لتجربة أتاتورك وممارسة نوع من النقد الذاتي حيالها بغية استجلاء تداعياتها الحقيقية على الدولة التركية والاهتداء إلى السبل المثلى والكفيلة بالتعاطي الناجع مع أزمات حاضرها وتحديات مستقبلها. نشر في العدد: 16675 ت.م: 29-11-2008 ص: 34 ط: الرياض