يظل الحديث، عن عوائق النهضة الإسلامية في العصر الحديث، قضية شائكة تستحق إعادة النظر فيها المرة تلو الأخرى، لمعرفة عوامل الخلل التي ألمت بها، وتكبح جماحها كلما تهيأت لها الظروف المناسبة للانطلاق. والنهضة بمفهومها الشامل، الذي نتحدث عنه، ليست، فقط، محصورة في مجال الخطاب الديني أو الفكر الإسلامي الذي شهد مجموعة محاولات لتجديده قبل بداية النهضة الحديثة. ربما منذ حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية التي تعد أول حركة إحياء ديني كتب لها النجاح، نتيجة تحالفها مع النظام الحاكم آنذاك، وما تلاها من حركات سارت على نهجها أو سلكت مناهج أخرى. ولكن النهضة التي أتحدث عنها تركت آثارها الواضحة في مجالات الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، ولا زالت على رغم الصعوبات التي واجهتها والعثرات أو المشكلات التي توقف نموها. وهذا ما سنقرره في هذه الحلقات. وعلى رغم هذا فإن الحديث عن النهضة العربية والإسلامية، في العصر الحديث مع الدراسات الكثيرة والمتنوعة التي تناولت هذه النهضة بالدرس والتحليل، وتعكس بصورة أو بأخرى عمق الأزمة الراهنة التي تواجه العالم العربي والإسلامي وتحاول البحث عن مخرج لتلك الأزمة، يتمثل في مجموعة من الأسئلة تتصل بهذه النهضة مثل: متى وكيف بدأت؟ ولماذا بدأت؟ وماذا حاد بها عن الهدف المنشود؟ وعلى رغم تعدد الاتجاهات والجهود المبذولة في الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها والجدال المحتدم حول هذه النهضة لا يلبث أن يهدأ ثم يعود من جديد. هذا إضافة إلى محاولة كل اتجاه أن يطوع فكر النهضة لرؤيته الخاصة، ومذهبه الذي يدين به. وعلى رغم كثرة الدراسات حول رأي رواد النهضة وحللت أفكارهم، ووضحت ما بذلوه من جهد في سبيل ذلك . وسنتعرض لبيان معنى المصطلح والمعاني التي استخدمت للتعبير عنه على النحو التالي: معنى المصطلح: لا شك أن هناك حالة من الفوضى في استخدام المصطلحات في عالمنا العربي والإسلامي. وهذا الحال يخلق نوعاً من البلبلة والتشتت وعدم التركيز في الحديث عن الموضوع الواحد. وقد استخدم مصطلح النهضة بمعاني ومرادفات عديدة، منها النهضة والإصلاح والتجديد والتقدم والإحياء وغيرها من المصطلحات التي عبر بها الباحثون عن طبيعة هذه النهضة بمرادفات مختلفة عبر ما يزيد عن قرنين من الزمان. وسنتوقف معها لنلقي الضوء عليها ونبين مضامينها والفروق المهمة بينها. أما مصطلح النهضة الذي اخترناه عنواناً، فيحمل مضامين مادية، قصدنا إليها قصداً لأن النهضة لم تقتصر على جانب دون آخر وإنما امتدت لتشمل كافة جوانب الحياة المادية والمعنوية في العالم العربي والإسلامي. وربما لهذا السبب لم ينل شهرة وسمعة كالإصلاح، كما أنه يتخطى نطاق الخطاب. الديني نحو أفق أكثر عمومية يشمل جميع أنواع الخطاب، وهو ما يستشف من عنوان كتاب أنور عبد الملك الذي تناول فيه"نهضة مصر". وفيه تناول النهضة بمختلف جوانبها. لكن المصطلح مع ذلك يعبر عن معنى التجديد والإصلاح. فالنهضة تكون بعد سقوط وتعثر. وهذا ما جاء به الأنبياء والمرسلون للنهوض بالأمم والشعوب. فالإسلام ليس دين عبادة فحسب وإنما هو نهضة دينية ومدنية معاً، قصد بها النهوض بالعرب، الذين اختير الرسول منهم أولاً، لينهضوا بسائر البشر ثانياً، وقد كان العرب في ذلك الوقت أمة أمية وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة الجمعة - آية 2-"هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"فالقرآن الكريم يؤثر لفظ الأميين على لفظ العرب، ليدل على أن القصد من هذا هو محو أميتهم. والنهوض بهم في الدين والعلم. هي وظيفة الإسلام الكبرى. وغايته العظمى في هذه الحياة الدنيا. وبها كانت خاتمة الأديان. ويبدو أن مصطلح الإصلاح كان الأكثر شيوعاً في التعبير عن معنى النهضة من مصطلح النهضة ذاته. فمصطلح الإصلاح كان هو الأكثر رواجاً في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. وهذا ما يستشف من جهود الشيخ محمد عبده التي كانت ترمي لإصلاح الأوضاع في جميع المجالات الدينية والاجتماعية والسياسية. فمصطلح الإصلاح أكثر شيوعاً في مجال الخطاب الديني وهو ما يعكسه عنوان مثل كتاب أحمد أمين"زعماء الإصلاح"الذي يتحدث فيه عن زعماء الإصلاح ورجال التجديد الفكري والاجتماعي في العالم الإسلامي. وكذلك عنوان كتاب عباس العقاد عن محمد عبده الذي جاء تحت عنوان"عبقري الإصلاح والتعليم". كما استخدم مصطلح إعادة البناء وهو ما جاء في كتاب محمد إقبال عن"إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام"Reconestraculter وإن كان إقبال يركز في كتابه على المنهج ولا يخفي تأثره بالتطور الحاصل في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية في الغرب حيث كان يعيش، والذي كان واقعاً تحت تأثير نظرية دارون الذي انتقل تأثيرها من المجال العلمي إلى مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية فأحدثت نقلة نوعية في هذه المجالات. ومن المصطلحات المستخدمة للتعبير عن معنى النهضة أيضاً مصطلح الإحياء، بمعنى إحياء الدين في النفوس ورد الناس إلى الدين الحق. وهو مصطلح استخدم كثيراً قديماً وحديثاً، منذ كتاب أبو حامد الغزالي الشهير إحياء علوم الدين. وقد شاع هذا المصطلح أيضاً في العقدين الآخرين من القرن العشرين. وأطلق على الحركة الإسلامية التي تنامت في تلك الفترة وقويت شوكتها خصوصاً بعد الثورة الإسلامية في إيران. وشاع مصطلح التجديد كمرادف للنهضة واستخدم في تجديد الفكر الديني بصفة خاصة. وعلى رغم أن كلمة تجديد وردت في الحديث النبوي:"إن الله يبعث على رأس كل مئة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها"ويقصد بها عودة الناس للأصول الصحيحة بعيداً من البدع والخرافات. فقد شاع مصطلح الإصلاح لما يحمله مصطلح تجديد من مضامين سلبية قد لا تكون مقبولة في التعامل مع الخطاب الديني. وكلمة تجديد توحي بمقابلها وهو القديم غير المرغوب فيه، كما توحي إضافة والإيجاد على غير نموذج سابق، وهي معان غير محمودة في التعامل مع أصول الخطاب الديني وتهدف الى طمس معالمه والعبث بأصوله بزعم تجديده وتطويره، وهذا ما يلتمس في كتابات أمثال محمد أركون وحسن حنفي ونصر أبو زيد وغيرهم. ويظل تطويع المصطلح، من قبل كل فصيل او تيار في مجتمعاتنا العربية لرؤيته الإيديولوجية ومنهجه السياسي والفكري، أكبر عوامل الفوضى في مجال استخدام المصطلحات المعبرة عن النهضة والتعاطي معها. فيستخدم المصطلح بالشيء ونقيضه في وقت واحد. فعلى سبيل المثال يستخدم لفظ سلفي لدى فريق عند الإشارة الى تيار فكري مشهور وهم أتباع احمد بن حنبل. ويستخدم أيضاً بمعنى الإشارة الى العصور السابقة في الإسلام، ويستخدمه فريق من العلمانيين والماركسيين العرب إشارة إلى الرجعية والتخلف ويقصدون به المتدينيين عموماً الذين يتمسكون بالأديان. ولن يتم حوار مشروع مع الآخر ما لم نقيم حواراً داخلياً نستمع فيه إلى بعضنا بعضاً ونتفق فيه على أرضية مشتركة ننطلق من خلالها في حوارتنا وخلافنا على السواء. وإلا سوف يظل الحديث بين تلك التيارات أشبه بحديث الطرشان لا يستمع فيه أحد للآخر، ولا يعي ما يقوله. كما سيكون لكل فريق منهجه الخاص ورؤيته الخاصة للمصطلح لا يدركه الفريق الآخر. وهو ما يؤدي للانقسام والتشرذم والبلبلة خصوصاً بين الشباب وقطاعات عريضة من الجماهير. * كاتب مصري