لماذا اتهمت التفكيكية بالعدمية؟ ولماذا وقف قسم كبير من الغرب منها موقفاً سلبياً، وشن كبار المفكرين والمثقفين الغربيين والعرب هجوماً صاخباً عليها؟ أسئلة كثيرة نطرحها، ونحن لا ندعي فهمنا الكامل والشامل للتفكيكية كمنظومة فكرية قبل أن تكون مدرسة نقدية أدبية. الذين جاؤوا إلى التفكيكية من مدخل النقد الأدبي مثل إدوارد سعيد، أمسكوا بمفهوم جاك دريدا في هذا السياق، والمتمثل في لا نهائية التأويل، طالما كان الدّال متغيراً ومتحركاً في العمل الأدبي، نتيجة ارتباطاته المعقدة مع الدّوال الأخرى في العمل الواحد، ونتيجة ارتباطاته بدوال أخرى سابقة ولاحقة - التناص -، ما يعني أن المدلول غير محسوم بالضرورة، ومتغير ومتحرك ودائم التبدل والحركة. وهنا رد إدوارد سعيد بالقول: إن كل القراءات إذاً خاطئة، طالما كان مفهوم الإرجاء هو المسيطر على القراءة النقدية في التفكيكية. ولم ينتبه إدوارد سعيد إلى أن الإرجاء يمكن أن يجعل من القراءات كلها صائبة أيضاً، طالما كانت الدوال في لحظة تاريخية مشروطة، تحيل إلى مدلول ما! أي أن النص متحرك بتحرك العلاقات وتغيرها بين الدوال في النص ذاته من جهة، ومع النصوص السابقة واللاحقة من جهة أخرى. ولكن، هل كان إدوارد سعيد بريئاً تماماً؟ لكي نجيب على هذا السؤال، فإن علينا أن نشير إلى أن التفكيكية ليست منهجاً مصمتاً، بل هي ضد المنهجية الجامدة، إلى الحد الذي جعل البعض ينعتها بمنهج اللامنهج! يفترض دريدا أن المنهج يتسم بالجمود، وبالأفكار المسبقة، بينما النص متحرك، ومتفاعل مع ما قبله وما يتلوه من نصوص. ويفترض أيضاً أن النص يتحرك ضمن منظومة من الشروط التاريخية والاجتماعية التي تبدل في أثر الدوال وتغير في العلاقات بينها، وهو ما يعني أن النص فعل حي ذو ديمومة وصيرورة تاريخية لا تتوقف، وهو ما يفسر القراءات النقدية المتجددة لكثير من الأعمال الأدبية الشهيرة. وما يعني بالضرورة تغير المدلول. تشير التفكيكية إلى العقل الغربي باعتباره عقلاً ميتافيزيقياً في خلال تمحوره حول الثنائيات الجامدة. وباعتبار العقل الغربي هو صاحب مشروع الحداثة، فقد ارتأى أنه مركز الجذب والتمحور، وأن الآخر هامش وتابع وثانوي. ولم تتوقف المشكلة هنا، بل تعدتها إلى اعتماد العقل الغربي بناء على ما سبق مفهومَ التفضيل. وهذا المفهوم يمتاز بالجمود والثبات وعدم الدقة. فالمركز عند دريدا لا يكتسب أهميته من ذاته، بمقدار ما يكتسب هذه الأهمية من الهامش، ما يعني أن الهامش ضروري بمقدار ضرورة المركز، وما يعني بالتالي أن أهمية الهامش لا تقل عن أهمية المركز... أي أن مقدار الأهمية متكامل ومتبادل، وهو ما ينفي التفضيل الذي يستند إليه العقل الغربي. وهذا التفضيل الذي يمتاز بالرسوخ والجمود في العقل الغربي، هو ما يجعل هذا العقل ميتافيزيقياً، من حيث تصبح بعض المدلولات في لحظة تاريخية مشروطة، مسلمات لا ينبغي لأحد نقضها أو نقدها. وهنا لا بد من التساؤل عما ذهب إليه بعض المفكرين، وهو أن التفكيكية لا تعدو كونها تكريساً للتفاسير التوراتية اليهودية. وهو أمر يتناقض مع جوهر التفكيكية القائم على الشك، والرافض للمفاهيم والمدلولات الجامدة والراسخة والمكرسة في العقل الغربي... أي الرافض للعقل الميتافيزيقي! التفكيكية بهذا المعنى جاءت لكي تقول إن مشروع الحداثة ليس جامداً ونهائياً، وإن هنالك إمكاناً لإسهامات أخرى ثقافية وحضارية غير غربية، طالما كان العالم متحركاً، والأفكار متوالدة بعضها من بعض... أي أن تفضيل العقل الغربي ليس أمراً مسلماً وضرورة حتمية... وبمعنى آخر فإن دريدا جاء لكي ينزع صفة القداسة عن هذا العقل، وهي الصفة التي ألصقت به باعتباره صاحب المشروع الحداثي. وطالما كان دريدا داعياً لإسقاط القداسة، ولتضييق مساحة المقدس، فإن ذلك يعني بالضرورة فتح المشروع الحداثي على آفاق جديدة مؤجلة دائماً، وهو ما يعني إمكان تبادل المراكز بين الأنا والآخر بصفة متحركة. ماذا يعني ذلك؟ إنه ببساطة يشير إلى أن الغرب قد امتلك حقاً بالقوة وهو ما جعل هذا الغرب قيّماً على إصلاح الآخر الأقل شأناً وأهمية، فلجأ - أي الغرب - إلى الوسائل الأبشع عبر التاريخ من قمع واستعمار واستعباد واستبداد وإبادات جماعية بحق شعوب فقيرة بحجة تثقيفها وتعليمها وتعميم الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، متناسياً أن هذه الوسائل غير الإنسانية تتنافى وتتعارض مع الحرية وحقوق الإنسان في الشكل وفي الجوهر. تبدو مشكلة الغرب مع التفكيكية كامنة في إسقاط هذا التفضيل الذي كرسه الغرب عبر قرون، ما جعله سيداً مستبداً ومشرعاً وقاضياً وحاكماً، من دون محاسبة أو مساءلة من الآخر الذي هو في الأساس أقل شأناً وأهمية، وغير منخرط في مشروع الحداثة، وبعيد من طريق العقل وخياراته! لقد استفاد العقل الغربي من مفهوم دريدا للإرجاء، ومن عدم الركون إلى مدلول محدد، ومن الإمكانية اللامحدودة للتأويل، وفسر ذلك بالعدمية والفوضوية، وباللاجدوى من الكتابة. ولأن العقل الغربي يدرك جيداً أهمية الكتابة، لما تتيحه من فسحة للتأمل من قبل المتلقي، فقد لجأ إلى الصوت، وتحول إلى ظاهرة صوتية في المقام الأول، فظهرت إمبراطوريات الإعلام المرئي والمسموع، والتي أصبحت المصدر الرئيس للمعلومات والأفكار، ما مهد لقيام ثقافة سائدة قوامها ثنائيات راسخة، وتفضيل مركزي. لم نستوعب التفكيكية في شكل مطلق، ولكننا توقفنا عند ما أشار إليه الكثير من الدارسين والمترجمين والباحثين العرب في هذا السياق، وهو بالضرورة ناقص ولا يفي بالغرض الكلي. ولكنه كاف إلى حد يجعلنا نرى في التفكيكية ضربة قوية موجهة ضد الاستبداد والأنا الغربية المركزية التي تمارسه، وتعتبره حقاً مشروعاً لها، كما فعلت مع السكان الأصليين في الأميركيتين وأستراليا وغير مكان. وفي مجال النقد الأدبي، فإن دريدا لا يحظر التأويل، بل يحث عليه، ويعتبره لا نهائياً وغير محدود. وهذا القول لا يعني - كما أشرنا - أن القراءات في هذه الحال كلها خاطئة، بل هي موقتة في انتظار ما تسفر عنه العلاقات المتغيرة بين الدوال في النص الواحد من جهة، وبينها وبين غيرها في النصوص الأخرى. وطالما كان النص مشكلاً من مجموعة من البنيات لا بنية واحدة كما يرى دريدا، فإن على الناقد أن يقوم بتفكيك هذه البنيات أولاً قبل الركون إلى الأنساق التي أشارت إليها البنيوية الأولى. ومن هنا يكتسب التناص أهمية بالغة لم يكتسبها من قبل، باعتبار ما يكتب مبني على ما كتب أصلاً، وعلى ما أنتجته البشرية من قبل. مشكلة الغرب هي أنه يريد أن يظل الأول دائماً، على رغم المتغيرات التاريخية والمعطيات الأيديولوجية والاجتماعية المتحركة. وهو باحتفاظه بهذه المرتبة، يمنح ذاته ميزة التفوق والسمو على سواه، ويعطيه الحق في تصويب الأوضاع المختلة حيثما وجدت، وكيفما شاء، حتى لو باللجوء إلى القوة والإبادة الجماعية. ولم يكن هنتنغتون متناسياً للتفكيكية وهو يتحدث عن صراع الحضارات، وبخاصة حين أشار إلى الكونفوشيوسية والإسلام. فهو يدرك كمفكر أن الشعوب الأخرى - غير الغربية - قادرة بإرثها الحضاري والثقافي على إضافة الكثير إلى الحضارة البشرية، وإلى منجزات العقل البشري، أي أنها قادرة على الانخراط في مشروع الحداثة، ولكن من دون التخلي عن الهوية. وهو ما يعني صراعاً حتمياً بين عقل غربي يريد الحفاظ على امتيازات الأنا المركزية بكل ما تعنيه من هيمنة وسيطرة واستبداد وإذابة الآخر تاريخاً وحضارة وثقافة وهوية، وبين عقل شرقي يمتلك إرثاً إنسانياً يعارض بقوة مشروع الغرب الاستبدادي والمهيمن والمسيطر، بين عقل غربي لا يقيم وزناً للقيم الإنسانية طالما كان هو الأقوى، وبين عقل تأخذ القيم الإنسانية فيه حيزاً أساسياً وقيمة جوهرية. وهو ما يعني محاولة الشرق إعادة القيم إلى دورها في الحياة الإنسانية، الأمر الذي يحتم الوقوف ضد العولمة المتوحشة، وضد رأس المال، وضد الشركات العابرة للقارات التي لا تهدف إلا إلى الربح وإفقار الآخر واستغلاله، سعياً الى مزيد من إثراء المركز، وبالتالي إلى مزيد من امتلاكه القوة والهيمنة. وبمقدار ما نعرفه عن التفكيكية، فإن تضييق مساحة المقدس يعني أن علينا في الشرق أن نكون أكثر جرأة في مقاربة المقدس والحوار فيه ومعه، ما يتيح للعقل العربي انطلاقة جديدة تبحث في الآفاق الواسعة التي ظلت مغلقة بفعل الخوف من بطش المقدس وسطوته الأخلاقية. وهو أمر لا بد قادم بالضرورة، وهو ما جعل واحداً مثل هنتنغتون يتخوف من هذا المارد إذْ ينطلق من قمقمه!