أقرّ مجلس الوزراء العراقي، بغالبية أعضائه، اتفاقاً أمنياً يشرّع الاحتلال العسكري الأميركي، ويمنح جنوده حصانة قضائية. تزامن إقرار الاتفاق مع موافقة اللجنة العليا للانتخابات على إجراء استفتاء عام في البصرة لتحويلها إلى إقليم مستقل. شأنها في ذلك شأن إقليم كردستان. القراران مؤشر واضح إلى ما سيكون عليه عراق المستقبل الذي أسسه الرئيس جورج بوش وزعماء الطوائف، بدعم إقليمي واستهتار عربي، أفسحا المجال للإرهاب وللاحتلال لتحويل بلاد الرافدين ساحة للصراع على النفط مغلف بغطاء أيديولوجي غيبي، استبعدت منه القيم الإنسانية والمفاهيم الوطنية والقومية. وفاز فيه الأكثر تسلحاً وقدرة على التدمير والقتل. في مرحلة بناء العراق المدمر كل شيء مباح. كل شيء مبرر باسم الإعمار والحاجة إلى الاستثمارات، والخوف على أموال النفط المودعة في صندوق التنمية وتنفيذ واشنطن تهديدها بمصادرتها، أو بتحريك المحاكم لمقاضاة بغداد، وفتح حساباتها القديمة مع المدينين والسماسرة والتجار والشركات. والإيعاز إلى دول كثيرة بوقف علاقاتها الديبلوماسية معها أو تجميدها، وإطلاق يد الخارجين عن القانون والإرهابيين، وإلغاء مشاريع ببلايين الدولارات من رسالة أميركية لحكومة المالكي إذا لم توقع الاتفاق. تحت هذا التهديد الأميركي أقرت حكومة بغداد الاتفاق. لكنها بررت موافقتها عليه بأنه يلبي مطامح العراقيين، وينفذ شروطهم، ويحدد وقتاً لانسحاب القوات الأجنبية من بلادهم، ويتيح لهم الخروج من أحكام البند السابع للأمم المتحدة. ليس الخوف، ولا تلبية مطالب العراقيين كانا وراء توقيع الاتفاق. الواقع أن لدى زعماء الطوائف الممثلين في الحكومة الفيديرالية مبرراتهم أيضاً. الأكراد مع أي اتفاق يحافظ على مكاسبهم واستقلالهم في الشمال. أعلن ذلك غير مسؤول منهم. رحب مسعود بارزاني من واشنطن بإقامة قواعد أميركية في كردستان، بموافقة أو من دون موافقة الحكومة المركزية. وتعهد إقرار برلمان الإقليم الاتفاق. الشيعة يعتبرون أنفسهم منتصرين طالما أنهم مسيطرون على الحكومة، وعلى قرارات البرلمان، وأي انتكاسة للوضع القائم في ظل الاحتلال تشكل خطراً على نفوذهم المستجد. السُنة رضوا بحصتهم بعد صراع مع الحكومة، ويطمحون إلى حصة أكبر، بعدما تصالح معهم الأميركيون وأنشأوا لهم ميليشياتهم الخاصة قوات الصحوة، وأبعدوا عنهم تنظيم"القاعدة"، وتهمة الإرهاب. أما الأقليات فلا حول لها. كل همّها المحافظة على وجودها الفيزيائي، ولتذهب كل حقوقها في المواطنة إلى الجحيم في ظل التهديد بالفناء. هذا الواقع الذي أفرزه الاحتلال ويحرسه لن يتغير في المدى المنظور. سيبقى لدى الولاياتالمتحدة ما تهدد به، جمهورياً كان الحكم فيها أم ديموقراطياً. وستبقى لكل طائفة طموحاتها ومطالبها المرتبط تحقيقها برضا واشنطن. جمع زعماء الطوائف في حكومة واحدة لا يشكل وطناً، بل يؤسس لخلافات وحروب مستقبلية. من لا يصدق فليراجع التجربة اللبنانية الأكثر عراقة في هذا المجال. نشر في العدد: 16664 ت.م: 18-11-2008 ص: 17 ط: الرياض