ولادة الحكومة الجديدة المتوقعة اليوم في بغداد تضع العراق أمام استحقاقات مصيرية جديدة – قديمة. تعني ولادتها أن التوافق الداخلي تقدم خطوة في مسار طويل وشاق. وللتوقيت هنا دلالات تتجاوز التزام رئيسها المهلة الدستورية. فتوافق العراقيين بعد معاناة تسعة اشهر سبقه توافق دولي في مجلس الأمن على إخراج بلادهم من موجبات البند السابع الذي يسمح باللجوء إلى فرض عقوبات أو إلى استخدام القوة. أقر المجلس ثلاثة قرارات أنهى أولها برنامج «النفط في مقابل الغذاء» الذي اعتمد إبان الحصار الاقتصادي طوال التسعينات من القرن الماضي. وأنهى الثاني الإدارة الدولية للموارد العراقية عبر صندوق» تنمية العراق» آخر حزيران (يونيو) المقبل. وأقر الثالث رفع الحظر عن واردات العراق النووية لتنفيذ برنامج نووي سلمي. تحمل هذه القرارات رسالة واضحة أن المجتمع الدولي بات أكثر ثقة بقدرة العراقيين على إدارة بلادهم، أو هو يحفزهم على ذلك، ولكن ليس إلى حد قدرة العراق على أداء دور إقليمي كما عبر وزير الخارجية هوشيار زيباري الذي يتوقع التجديد له. والذي ذهب في حديث إلى «الحياة» إلى حد القول إن بلاده ستلعب أدواراً إقليمية في ملفات المنطقة الساخنة، من إيران إلى لبنان، وإن عنى ذلك أن بغداد تعِد نفسها باستعادة دور كانت خسرته في العقدين الأخيرين. فدون هذا الدور عقبات داخلية وخارجية. بل دونه استحقاقات مصيرية تواجه النسخة الثانية من حكومة نوري المالكي. أو تواجه الاتفاق الداخلي الذي قام على مبادرة رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني. التحديات التي ستواجه بغداد في المرحلة المقبلة كثيرة، داخلياً وخارجياً. وعلى رأسها التحدي الأول والأساس وهو كيفية الحفاظ على العراق واحداً موحداً. ذلك أن «توافق الضرورة» الذي ولدته ضغوط خارجية متعددة ومصالح خارجية متعارضة على الكتل العراقية لا يمكن أن يبني بلداً... إلا إذا عرفت الحكومة الجديدة كيف تدير العملية السياسية، أولاً بالخروج من البنية الطائفية والمذهبية، وثانياً بالتوجه إلى بناء المؤسسات الدستورية على أساس وطني. لأن خلاف هذا الهدف يعني أن الوزارة الجديدة قد لا تعمر، أو قد يصل البلد إلى الانتخابات النيابية المقبلة بعد أربع سنوات مقطع الأوصال إلى حدود التقسيم. ستكون الحكومة الجديدة تحت مجهر الدول المجاورة، من إيران إلى سورية وتركيا والمملكة العربية السعودية ودول الخليج والجامعة عموماً. ستنتظر هذه الدول كيف ستعيد الحكومة الثانية للمالكي ترميم علاقاتها بالجوار العربي خصوصاً، وطريقة إدارتها لعبة التوازن بين المؤثرات الخارجية، خصوصاً دور إيران ومستقبل الدور الأميركي بعد استكمال سحب القوات الأميركية آخر السنة المقبلة. لقد أكد نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن الذي يتولى شخصياً ملف العراق أن بلاده لن تتخلى عن التزامها في هذا البلد، موضحاً «أن طبيعة التزامنا هي بالأحرى التي ستتغير من طابع عسكري نحو طابع مدني». فكيف ستتوافق بغداد مع هذا الالتزام الجديد فيما تضم في ثناياها ممثلين لكتل تناهض أي وجود للولايات المتحدة؟ لقد قام زعيم «دولة القانون» بعد الانتخابات بجولة عربية هدفت إلى التأكيد للداخل العراقي أنه مقبول اقليمياً على رغم كل التداعيات التي نتجت من «معاركه» مع عدد من الجيران. لكن اليوم في ضوء المخاوف العربية الكثيرة من تنامي نفوذ إيران، والتي أظهرتها وثائق «وكيليكس»، سيكون المالكي أمام امتحان قاس: كيف سيوازن بين النفوذ الإيراني والحفاظ على موقع العراق في المنظومة العربية. خصوصاً أن بعض العرب نادى بتولية إياد علاوي، فيما كانت طهران تغالي في رفض هذا الخيار، بالدعوة إلى تجديد ولاية زعيم «دولة القانون» على حساب الكتل الشيعية الأخرى. بل دفعت هذه الكتل دفعاً إلى الوقوف وراء التجديد له. ألا يكفي ما قاله السيد مقتدى الصدر علناً أنه لولا ضغط الجمهورية الإسلامية لما أعطى موافقته على هذا التجديد... فضلاً عن الموقف المتشدد الذي اتخذه «المجلس الأعلى» بقيادة السيد عمار الحكيم. حتى بدا أن ثمة تيارين شيعيين واحداً يوالي طهران والآخر يود تأكيد استقلاله عنها! لا جدال في أن ولادة الحكومة جاءت نتيجة طبيعية ل «اتفاق الضرروة» أساساً بين كل المعنيين بالشأن العراقي، بعيدين وقريبين. وأثبت الصراع الذي واكب تشكيلها طوال تسعة أشهر، وقبل ذلك عشية الانتخابات في آذار (مارس) الماضي، أن إيران لا تملك القوة الكافية لفرض مشروعها في العراق، وإن ملكت بالتأكيد القدرة على إعاقة المشروع الأميركي المواجه. وهو ما دفع بالخصمين إلى الالتقاء على خطوة وسط، هي إعادة التجديد للمالكي الذي سيكون أيضاً أمام امتحان أشد صعوبة هذه المرة في الموازنة بين رغبات إيران من جهة وواشنطن من جهة أخرى... مع وجوب إشراك علاوي والمكونات السنية في كتلته، لئلا تتكرر تجربة العنف كما حصل بعد انتخابات 2005. وهذا ما لا يروق لطهران، لأن ذلك يعرقل تنامي دور الكيانات الشيعية في إدارة العملية السياسية وإحكام القبضة على معظم المؤسسات. وهو هدف سعت إليه ولا تزال. وهو ما دفعها إلى دعم المالكي الذي أظهر حنكة في إحكام سيطرته على الوزارة. كما أظهر حزماً وشجاعة في مواجهة الميليشيات. وهو ما دفع واشنطن أيضاً إلى تأييد عودته. يمكن الولاياتالمتحدة القول إنها نجحت في دفع كل الكتل العراقية إلى إقرار مبدأ تشكيل حكومة واسعة يشارك فيها الجميع، خصوصاً إياد علاوي زعيم «العراقية» الذي ابتدعت له «المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية» لتشجيعه على المشاركة من جهة ولمراقبة أداء المالكي في الحكومة. ولا شك في أن التوافق على تحديد صلاحيات هذا المجلس سيكون أبرز التحديات الملحة أمام الوزارة الجديدة. وسيؤشر إلى مقدرة المالكي على التوفيق بين الرغبات المتناقضة لكل المعنيين في الخارج بالداخل العراقي. فهل يرضخ للمطالبين بمنح هذا المجلس صلاحيات تنفيذية موازية لسلطة الحكومة أم يقتصر دوره على تقديم المشورة؟ ومن ستضم تشكيلة المجلس؟ وكيف تتخذ القرارات؟ بالإجماع أم بالأكثرية؟ قد تكون شروط إياد علاوي، وبالتالي موقعه، منيت بشيء من الضعف، أو لم تعد بالقوة التي كانت قبل تشكيل الحكومة. فليس خافياً أن توزيع الحقائب أغضب مجموعة هزت صورة التماسك الذي ميز «العراقية» في عز الصراع الذي استمر نحو تسعة أشهر قبل ولادة الحكومة الجديدة. لكن المجلس بصلاحيات فاعلة يبقى أيضاً حاجة ضرورية لتصويب أي خلل قد يضطر إليه رئيس الحكومة بفعل الضغوط الإيرانية. حاجة لمقترحيه الأميركيين وغيرهم من جيران العراق (سورية وتركيا والمملكة العربية السعودية) الذين لم يجد بعضهم مفراً من قبول عودة زعيم «دولة القانون». لكنهم في المقابل أصروا على دور مميز لزعيم «العراقية». وهو ما لم تستطع طهران رفضه، رغبة في مماشاة سورية وتركيا، وخوفاً من عودة العنف الذي يعوق طموحها إلى تمكين حلفائها من إحكام قبضتهم على السلطة. ومن التحديات مصير «هيئة اجتثاث البعث». أقر البرلمان قبل يومين رفع الحظر عن ثلاثة من السياسيين السنة الذين حرمتهم «هيئة المساءلة والعدالة» من خوض الانتخابات النيابية في آذار (مارس) الماضي لاتهامهم بالارتباط بحزب البعث المنحل. لكن هذا القرار الذي بدا تسهيلاً لولادة الحكومة قد لا يكون دليلاً كافياً إلى أن التوافق الداخلي على سكة مستقيمة. والسؤال هل بلغت الثقة بين المكونات العراقية مرحلة يمكن الاستغناء فيها عن «هيئة المساءلة والعدالة» سيفاً مسلطاً فوق رقبة طائفة واسعة من المواطنين بعدما أظهرت في الانتخابات الأخيرة أنها كانت كذلك؟ هل حان وقت المصالحة الحقيقة والاقتناع بوجوب مشاركة الجميع وطي صفحة الماضي؟ أما التحدي الذي يرفعه إقليم كردستان فلا يقل شأناً عن أي من التحديات الأخرى. فالمطالب الكردية واضحة، ومواقف الآخرين منها واضحة أيضاً. ويلح الكرد على عدم التهاون في تمييعها، كما حصل في السنوات الماضية، وعلى رأسها تنفيذ المادة 140 من الدستور التي تتعلق بوضع كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها. ولا شك في إن تذكير رئيس الإقليم مسعود بارزاني بحق تقرير المصير قد يراد منه في هذه المرحلة تعزيز مواقع التحالف الكردستاني في موضوع المدينة النفطية والمناطق الأخرى ومطالب وأهداف أخرى. ذلك أن تقرير المصير دونه عقبات ليس داخلية فقط، بل دولية وإقليمية. فلا الولاياتالمتحدة والغرب عموماً في وارد دعم توجه انفصالي قد يؤدي إلى إشعال العراق والجوار في حروب أهلية. ولا دول الجوار، خصوصاً الثلاثي الإيراني- السوري - التركي في وارد التساهل مع مثل هذا التطلع الذي سيوقظ أحلاماً جهدت هذه الدول في قمعها بالقوة قبل الترغيب. وفوق كل هذه الاستحقاقات هناك موضوع الإرهاب، والطريقة التي ستعتمدها الحكومة الجديدة لإعادة النظر في بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية التي كشفت وثائق «وكيليكس» أيضاً ما تعانيه من فساد ومحسوبيات وأدوار في أعمال العنف والاغتيالات والتعذيب. وهناك أيضاً موضوع الفساد، فالعراق يحتل المرتبة الدنيا في الشفافية في اللوائح الدولية. ويكفي ما يشاع ويقال عن سرقة المليارات في قطاع النفط وعقود مشتريات السلاح، والفساد المستشري في وزارات كثيرة. والأهم من هذا وذاك، هل سيواصل المالكي سياسة ترسيخ أقدام فريقه على حساب الكتل الشيعية التي قاطعته وسحبت منه الثقة لكنها رضخت لضغوط إيرانية وأميركية وإقليمية لتسهيل عودته مجدداً؟ وهل يعود إلى سياسة التفرد التي اتهمه بها حلفاؤه قبل خصومه؟ إن غياب المشاركة الفعلية في القرار تدفع في اتجاه تعزيز المنحى التقسيمي الذي غذته وتغذيه سياسة تقاسم المواقع والمناصب.