يطرح فوز المرشح الديموقراطي باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية الأميركية، العديدَ من الأسئلة التي تتصل بمستقبل العلاقات الدولية من جهة، وبخريطة الطريق الجديدة التي ستسلكها الولاياتالمتحدة الأميركية في المرحلة القادمة، من جهة ثانية، باعتبار أن فوز أوباما يعد بكل المقاييس، الديموقراطية والتاريخية والفكرية والثقافية، حدثاً مدوياً تخطى النطاق المحلي إلى النطاق العالمي، وبذلك أصبح حدثاً دولياً بكل ما في الكلمة من معنى ودلالة، سيكون له تداعياته على السياسة الدولية بحكم أن البيت الأبيض الذي سيدخله أوباما يوم 20 يناير القادم، يملك زمام التأثير في تسيير دواليب المجتمع الدولي وتحريك الرياح السياسية التي تهب على العالم في هذه المرحلة من تاريخ البشرية. وكما قال المعلق البريطاني المخضرم باتريك سيل في مقاله المنشور في هذه الجريدة 07/11/2008، فإن على الرئيس الأميركي المنتخب أن يعيد صناعة اسم أميركا في الخارج، وإعادة بناء سمعتها المدمرة. ولكن هل باستطاعة أوباما أن يحدث التغييرَ المرتقبَ، في ظل المناخ الذي يسود مناطق التوتر والصراع في أنحاء عديدة من العالم؟. وهل في استطاعة الرئيس الأميركي المنتخب أن يطهر الإدارة الأميركية من رواسب السياسة التي انتهجها المحافظون الجدد طوال الثماني سنوات الماضية؟. إذا تجاوزنا الانفعال بالحدث الذي يدفع إلى الانفعال به فعلاً وتأملنا المسألة بهدوء بعيداً عن أي تأثيرات سياسية أو مشاعر إنسانية، نجد أن السياسة الأميركية في إطارها العام وفي جوهرها وعمقها، لا تصنعها الإدارة الأميركية ولا ساكن البيت الأبيض فحسب، وإنما تصنعها عوامل أخرى كثيرة مركبة تتداخل فيها عناصر متناقضة، وتتدافع فيها أطراف ذات مصالح تتجاوز في بعض الأحايين، المصالح العليا للولايات المتحدة الأميركية. ومن هنا يأتي هذا القدر من الغموض الذي يلف السياسة الأميركية الخارجية، مما يفتح المجال أمام التأويلات والتخمينات والتفسيرات من مختلف المستويات التي لا تكشف بالقدر الكافي من الوضوح، عن حقائق الأمور في جميع الأحوال. لقد عرف العالم في عهد المحافظين الجدد الذين مارسوا سيطرتهم على الرئيس جورج بوش الإبن، تدهوراً خطيراً في العلاقات الدولية، نتيجة للقرارات غير السليمة القائمة على أساس غير صحيح، التي اتخذتها الإدارة الأميركية والتي أفضت إلى عواقب وخيمة وترتبت عليها مشاكل عويصة وأوضاع معقدة وأزمات متفاقمة وأجواء من التوتر لا يبدو أنها في طريقها إلى الانفراج في المدى القريب. ومما لا شك فيه، بناء على معطيات الواقع وعلى دروس التاريخ القريب، أن الموقف من إسرائيل، أو بعبارة أدق الموقف من الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي تتخذه الإدارة الأميركية، يتميز بنوع من الثبات والاستمرار في كل المراحل والأطوار التي تمر بها الولاياتالمتحدة الأميركية، بحيث لا تبدو الفروق، ولا أقول الاختلافات، ما عدا في التفاصيل التي قد لا تجدي نفعاً ولا تكون لها قيمة. ذلك أن الموالاة الكاملة والمكلفة لإسرائيل، هي مبدأ ثابت من المبادئ التي تلتزمها الإدارات الأميركية المتعاقبة، والدعم الكامل والمطلق لإسرائيل، هو خط من خطوط السياسة الأميركية الخارجية. إلاَّ أنّ المحافظين الجدد غلوا غلواً شديداً، فاستغلوا نشوبَ أزمات في مناطق من العالم العربي الإسلامي للدفع بالولاياتالمتحدة الأميركية في معمعتها وتوريطها فيها، خدمة لمصالح إسرائيلية في المقام الأول، يرون أنها تعلو فوق مصالح وطنهم. إنّ الخط الرئيسَ الذي تسير فيه الإدارة الأميركية، سواء أكان الرئيس من الحزب الجمهوري أم من الحزب الديموقراطي، لا يحيد عن هذا التوجّه. فهل يملك الرئيس المنتخب الإرادة السياسية الحازمة لتغيير هذا المسلك وللخروج عن هذا الخط والانتقال ببلده إلى مرحلة جديدة تتخلص فيها من رواسب الماضي ومن قيوده، لتنجو من كوارثه ومن مضاعفاته الخطيرة على الأمن والاقتصاد في الحاضر والمستقبل؟. إن مما يلاحظ منذ احتدام أوار الحملة الانتخابية الأميركية وإلى اليوم، أن هجوماً شديداً يشنّه المحافظون الجدد على الرئيس الأميركي المنتخب، تخترق حياته الخاصة، وتقلب في أوراقه القديمة، وتوجه إليه الاتهامات، وتشكك في قدراته على قيادة البلاد. وإذا كان هذا الهجوم الذي يحاصر الرئيس المنتخب مسألة داخلية، حسب التعبير الشائع، فإنه من جهة أخرى، مسألة تهم العالم كلَّه، ولا تهم الولاياتالمتحدة الأميركية فحسب"لأن الأهداف التي ترمي إليها هذه الحملة، تتجاوز الدائرة الوطنية الضيقة، إلى الدائرة العالمية الأوسع. والسؤال المطروح الآن، بالنسبة لنا في هذا الجزء من العالم، هو : كيف سيكون العالم الإسلامي في عهد الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما؟. هل سيطول هذا التغيير الذي رفعه شعاراً لحملته الانتخابية مواقفَ الولاياتالمتحدة الأميركية حيال الأوضاع المتردية والمقلقة في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال؟. هل سيلتزم الرئيس الجديد سياسة عادلة متوازنة حكيمة إزاء تعامله مع قضايا العالم الإسلامي؟. هل سيتحرر الرئيس الأميركي المنتخب، نهائياً أو جزئياً، من الضغوط الشديدة التي يمارسها، على شتى المستويات، المحافظون الجدد الموالون المتشددون لإسرائيل؟. وهل سيلتزم الرئيس أوباما بميثاق الأممالمتحدة وبقواعد القانون الدولي وبمبادئه الأخلاقية الإنسانية، حين يجد نفسه وجهاً لوجه أمام المشاكل والأزمات التي تمزق العالم الإسلامي وتربكه، وتضعفه وتهدد مستقبله؟. إن التعيينات الأولي التي قام بها الرئيس المنتخب، خاصة لمنصب كبير موظفي البيت الأبيض، حيث عين فيه رام إيمانويل الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية، وسبق أن خدم في الجيش الإسرائيلي، وما تسرب عن تعيينات في مناصب أخرى مهمة، كوزارة الخزانة التي رشح لها لورانس سامرز وهو ليكودي الهوى، وتيموثي غايتنر وهو يهودي من تلامذة سامرز، تدل على أن دار لقمان ستبقى على حالها في ما يخص العلاقة بين إسرائيل والولاياتالمتحدة الأميركية. وهذه إشارات غير سارة على الإطلاق. لكننا سننتظر حتى يتسلم الرئيس المنتخب مهامه، ويبدأ في تطبيق رؤيته لما يجب أن تكون عليه سياسة الولاياتالمتحدة الأميركية في عهده. ومهما يكن من أمر، فإن العالم الإسلامي مطالب بترتيب أوضاعه وتجاوز خلافاته وحلّ مشاكله في إطار التضامن الإسلامي، وحينئذ لن يبقى رهيناً للانتخابات الأميركية أو غيرها من التغيرات التي تحدث في العالم. هذا إذا أراد أن تكون له مكانة واحترام في الساحة الدولية. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو. نشر في العدد: 16662 ت.م: 16-11-2008 ص: 16 ط: الرياض