صدرت أخيراً أعمال المؤتمر الذي عقد في نهاية عام 2006 في العاصمة الجزائرية المكتبة الوطنية حول الفيلسوف الفرنسي اليهودي الجزائري الأصل جاك درّيدا. ونقول أخيراً لأن المؤتمر كان جمع أبرز المتخصصين في كتابات هذا المفكّر الذي ترك نحو ثمانين بحثٍ في ميادين مختلفة كالفلسفة والكتابة والسياسة والشعر والتحليل النفسي واللغة والترجمة والدين. ولأن أعمال هذا المؤتمر وُضعت تحت شعار"التسامح والانفتاح"وشكّلت بالتالي نوعاً من العرفان بالجميل، فهو بقي وفياً لهذا الشعار وجاهد من أجل رفعه عالياً طوال حياته. الكتاب الذي صدر لدى دار"أكت سود"الباريسية ودار"برزخ"الجزائرية تحت عنوان"درّيدا في الجزائر"، يقع في نحو 200 صفحة ويضم المداخلات التي أُلقيت خلال المؤتمر، تتصدّرها كلمة الفيلسوف الجزائري مصطفى شريف الذي أشرف على تنظيم المؤتمر وتوقف عند البُعد الجزائري لشخصية درّيدا مذكّراً بما قاله هذا الأخير له بفخرٍ وانفعال في لقائهما الأخير:"أريد أن أتكلم اليوم كجزائري". ويشير إلى تأكيد درّيدا له أن الجزائريين والمسلمين هم الذين تكاتفوا معه ومع عائلته في الجزائر أثناء الحرب العالمية الثانية، وأن هذا الاختبار طبع حياته وفلسفته بعمق وجعله يواجه الخطابات الطاغية آنذاك بمفهوم التعدّدية كجوهر الحضارة بذاته، وينظر إلى الفكر كفعل إيمانٍ وانفتاح. وتناول الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي في مداخلته تشكيك درّيدا في مسألة تقرير المصير الذاتي التي كانت رائجة في الخمسينات من القرن الماضي إلى حد إدخالها في شرعة الأمم المتّحدة كضرورة إنسانية، ورفضه أي استقلالية سياسية أو فلسفية لا مكان للآخر فيها نظراً إلى استحالة أي أصلٍ وحيدٍ ومطلقٍ للحدث أو الكائن أو المعنى، وإلى خطورة التأكيدات الهويتية التي تهمل ليس فقط الاختلافات الخارجية ولكن أيضاً الاختلاف الداخلي الذي وحده يفتح الهوية على ذاتها، أي على سماتها المقبلة وغير المحدَّدة سلفاً. وأشار نانسي إلى نجاح درّيدا في تغيير مفهوم الفلسفة التي لم تعد مجرّد رؤية مسبقة وثابتة للعالم، محرّراً هذا الأخير من مستقبلٍ يمكن التكهّن به أو برمجته. وبيّن أستاذ الفلسفة في جامعة ريو دي جانيرو سيلفيانو سانتييغو كيف تحوّل تراجع أوروبا كثقافة مرجعية في القسم الثاني من القرن العشرين إلى أداةٍ نظرية استخدمها درّيدا لنقد النزعة العرقية وزعزعة تاريخ الميتافيزيقيا وتاريخ الثقافة الأوروبية كعنصري مجانسة للعالم، وفضح وحدة هذا الأخير المزعومة بمرجعية أوروبية فرضتها في شكلٍ سلطوي على الآخر القيم الإثنية الرجل الأبيض واللغوية اللغات القومية في أوروبا والاقتصادية البرجوازية المتهافتة على الربح والدينية المسيحية. وتناول المحللان النفسيان رونيه ماجور وزوجته شانتال اهتمام درّيدا الثابت بالديانات الموحّدة وتمييزه بين الإيمان والانتماء الديني واعتباره أن الفصل بين السياسي والتيوقراطي لا يتنافى مع ضرورة الإيمان في معناه العام، وهو إيمانٌ يستحيل من دونه أي رابط اجتماعي ويشكّل الأساس الوحيد الذي يفرض احترام الانتماءات الدينية، وأشار المحللان إلى قناعة درّيدا العميقة بالدور الكبير للإرث العلمي والعقلاني للإسلام في انبثاق الفكر الغربي والحداثة، وبضرورة ابتكار عولمة أخرى، غير العولمة الحالية الخطيرة، تتمكّن فيها أوروبا من فرض قرارات دولية أكثر عدلاً. وتكلّمت الكاتبة والأستاذة الجامعية هيلين سيكسو عن تجربتها الجزائرية المشابهة لتجربة درّيدا وعن ارتباط مفهوم التفكيك dژconstruction الذي ابتكره هذا الأخير بالأحداث الأليمة التي عاشها في الجزائر خلال نظام فيشي. وتوقّفت أستاذة الفلسفة ماري لويز مالي عند أهمية مفهوم الضيافة في فكر درّيدا الذي يذهب به إلى أبعد حدود عبر تعريفه كعملية استقبال الآخر الغريب من دون شرطٍ أو قيد، مبيّنةً أن انعدام شعور درّيدا بموطنٍ محدَّد ودارٍ ثابتين له واختباره تجربة المنفى أينما حلّ، هما اللذان يشرحان نظرته الراديكالية النبيلة الى هذا المفهوم، ومُظهرةً حضور هذا المفهوم في فكر الفيلسوف منذ البداية، وهو فكرٌ مضيافٌ وحاضرٌ دائماً لاستقبال الأفكار الأخرى وملاقاتها. وفي هذا السياق، تشير مالي إلى أن"التفكيك"هو أبعد ما يكون من الفكر الهدّام، كما ظنّه البعض، بل إنه بالعكس ممارسة انفتاحٍ يجهد في تفكيك التشييدات الجامدة على قواعد ثابتة وفتحها على الاحتمالات والأحداث المقبلة. أما أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، أنور مُغيث، فذكّرنا بأنه، خلال الحقبة الستالينية، كانت القراءات السياسية للنصوص الفلسفية تهدف إلى الاتهام والفضح بدلاً من تقويم هذه النصوص في شكلٍ موضوعي، الأمر الذي دفع ببعض المفكّرين العرب إلى التشكيك بأمانة فكر درّيدا وإلى قراءته من منطلق أصوله اليهودية بينما الحقيقة هي أن درّيدا بريء من هذه القراءة الخاطئة والمختزلة لفكره، إضافة إلى أنه لم يشأ تشييد مذهبٍ سياسي لتجنّب أي نزعة توتاليتارية. فكل واحد من كتبه هو قراءة لنصٍ فلسفي، وحين نطلع على هذه النصوص نكتشف أن قراءته لها تزعزع فيها أسساً كانت في السابق غير قابلة للشك وتقود هذه النصوص نحو"الإحراج"l"aporie الذي هو تناقض لا يمكن إخضاعه لأي جدلية،"إحراجٌ"يسكن في قلب السياسة والأخلاق ژthique ويشكّل في الوقت ذاته حاجزاً في وجه أي توتاليتارية. وتناولت الأستاذة الجامعية المصرية منى طلبة كتاب"إيمان ومعرفة"لتبيّن كيف أظهر درّيدا فيه الروابط المضمَرة بين ما كان يحصل أثناء الأمبراطورية الرومانية، وما يحصل اليوم باسم الدين. فروما هي التي اضطهدت اليهود في الماضي، ثم المسيحيين، فبيزنطيا، قبل أن تتعرّض للمسلمين واليهود في القرون الوسطى. وكذلك الأمر في العصر الحديث مع اضطهاد اليهود في أوروبا واستعمار العالم العربي، ثم التواطؤ اليهودي - المسيحي ضد العرب واحتلال فلسطين... باختصار، يُظهر درّيدا في هذا الكتاب مسؤولية الغرب اللاتيني في المآسي والصراعات التي شهدتها أوروبا ومنطقتنا على مدى ألف عام، وضرورة أن يتخلى اليوم عن تاريخه الدموي وأن ينفتح على مستقبلٍ آخر وممكن. الباحثة الجزائرية زهرة حج - عيسى قاربت الفكرة الجوهرية التي حدَّدت إسهام درّيدا في ميدان الترجمة ومفادها أن كل ترجمة هي دعوة لا بل تواطؤ مع الميتافيزيقيا. وكما قاربت فكرةً جوهرية أخرى لدى الفيلسوف هي تعذُّر الترجمة الناتج من الوفاء للمعنى، والمقصود بها طبعاً ليس استحالة الترجمة، بل ان هذه الأخيرة ليست ممكنة إلا في حال تباريها مع ما تمثّل حدود كل لغة، وفي حال محافظتها على ذلك الهيكل المعقَّد المتمثّل بالتأمّل الفلسفي والميتافيزيقي الضروري لمواجهة مختلف الرهانات. وفي هذا السياق، أشارت الباحثة إلى قراءة درّيدا لوالتر بنجمان التي قادته إلى الاعتقاد بأن الترجمة قادرة على كشف الجانب الخفي من العمل المترجم وعلى ضمان استمراريته، كما أنها تقود إلى المصالحة بين اللغات نفسها. وتناول أستاذ الفلسفة في جامعة الجزائر عمر بوسّاحة مسألة تأسيس درّيدا منهجٍ خاص لمقاربة النصوص الفلسفية والأدبية المجدِّدة والجريئة يقوم على تعرية قواعدها النظرية والأيديولوجية، وسعيه إلى تفكيك العقل الغربي عبر نقد المفاهيم والتمثيلات والرؤى التي صقلتها الميتافيزيقيا الغربية، وأبرزها فلسفة الوحدة التي تشكّل فكرة العولمة امتداداً لها، وهي فلسفة توتاليتارية لأن المجتمع الناتج منها هو مجتمع ينتفي فيه الاختلاف والتضارب. نشر في العدد: 16662 ت.م: 16-11-2008 ص: 37 ط: الرياض عنوان: عندما اختار جاك دريدا أن يتكلم "جزائريا"