يتهيأ الحزب الحاكم في الجزائر، جبهة التحرير الوطني، تحت قيادة أمينه العام عبدالعزيز بلخادم، لخوض معركة تعديل الدستور لتمكين الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة من الترشح لولاية ثالثة. هكذا ينضم الرئيس الجزائري إلى نادي الرؤساء العرب الذين عملوا على تغيير قوانين بلدانهم لضمان استمرارهم على هرم السلطة. ومع التمهيد لتعديل الدستور، قام بوتفليقة بتعديلات مهمة داخل الحكومة، حيث أعاد أحمد أويحيى الذي يرأس الحزب الحليف داخل الحكومة، التجمع الوطني الديموقراطي، إلى رئاسة الحكومة، ودفع بلخادم إلى قيادة هذه الحملة. لا توحي هذه التعديلات بأي إصلاح تعتبر الجزائر في أمس الحاجة إليه، بقدر ما توحي بتشبث الجيل القديم من الساسة والجيش بالحفاظ على النظام السياسي كما هو وعدم التفريط بمكتسبات السنين الأخيرة. وتدخل إعادة أويحيى، الذي يتمتع بعلاقات مميزة بالمؤسسة العسكرية الى رأس الحكومة، في اطار طمأنة العسكر من جهة، وطمأنة المؤسسات المالية الى استمرار سياسة الانفتاح الاقتصادي. كما أن استمرار بوتفليقة في السلطة سيعطي من دون شك نوعا من الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني لبلد عانى الكثير من ويلات الحرب الأهلية ولا يزال يعيش تحت ضغط العمليات الإرهابية ضد المدنيين وعزوف الكثير من المواطنين عن العملية السياسية. جزائر عبدالعزيز بوتفليقة عرفت الكثير من الإنجازات على الصعيد الديبلوماسي، والى حد ما الأمني والاقتصادي. فالرجل يشهد له بالكثير من الحنكة السياسية التي خولته ليس فقط إعادة الجزائر إلى الخريطة السياسية الدولية، لكن توظيف هذه الحنكة لمناورة جنرالات الجيش وتثبيت أقدامه على رأس السلطة وتقوية مؤسسة الرئاسة. لكن الجزائر، كباقي دول المنطقة، افتقدت ولا تزال الحكم الخاضع للمحاسبة، حيث عانت منذ الاستقلال من أزمة سياسية اتضحت معالمها الأولى من خلال معارضة بعض زعماء الثورة التاريخيين ما آلت إليه الأوضاع إبان وبعد الاستقلال وطعنهم في شرعية الحكم القائم. واستفحلت هذه الأزمة بعد موت الرئيس بومدين، لتصبح أزمة سياسية واقتصادية وأمنية أكثر تعقيدا، خصوصا بعد إلغاء المسار الانتخابي وتضييق هامش الحريات والتراجع عن معظم الإصلاحات التي تمت في عهد الرئيس"المقال"الشاذلي بن جديد. يعتبر اي اصلاح عملية صعبة ومعقدة ويحتاج إلى ثقافة خاصة ومعرفة بمفاهيمه، وهو ما لم يكن مقبولا لدى المؤسسة العسكرية، التي كانت ترى انها مؤتمنة على استمرار النظام الجمهوري. أوقف الجيش الجزائري احتمال وصول الحركة الإسلامية، عبر"جبهة الإنقاذ"إلى السلطة. وكانت حصيلة هذا التدخل المفاجئ أكثر مأسوية وعنفا حيث فاق عدد ضحايا الحرب الأهلية في الجزائر 200 ألف قتيل وأكثر من 15 ألفاً لا يزالون في عداد المفقودين. حاول الرئيس بن جديد، خصوصاً خلال الفترة الثانية من حكمه، تقوية نفوذه السياسي وتوسيع سلطته من خلال تقوية مؤسسة رئاسة الجمهورية. فقد عمل عبر رئيس حكومته مولود حمروش على تفعيل إصلاحات جذرية بعد التظاهرات الدامية التي عرفتها الجزائر العاصمة في نهاية الثمانينات. تبنى بن جديد إقرار التعددية السياسية سنة 1989 وتقليص هيمنة الحزب الواحد/ الجيش، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد منذ الاستقلال، وتعديل الدستور وفتح المجال أمام أحزاب أخرى للتنافس على السلطة وتوسيع هامش الحريات. وكان يطمح من وراء هذا إلى تقليص دور العسكر في الحياة السياسية حيث عمل على أن تكون هذه المؤسسة مؤسسة دستورية، على غرار باقي المؤسسات التي لها صلاحياتها الواضحة، مع اختصاصات محددة دستوريا وقانونيا. وهكذا فصل الاستخبارات العسكرية عن هرم قيادة المؤسسة العسكرية وألحقها مباشرة برئاسة الجمهورية. لكن قادة الجيش كانوا مدركين للمخاطر التي تحدق بمصالحهم فعملوا على وضع نهاية للتجربة الديموقراطية بإلغاء العملية الانتخابية وإرغام بن جديد على التخلي عن منصبه. وحاول قادة الأركان إضفاء شيء من الشرعية على انقلابهم العسكري، خصوصاً بعد ان بدأ الصراع يحتدم بينهم وبين المجموعات الإسلامية المسلحة. جاءوا في البداية بمحمد بوضياف، آخر زعماء التحرير الوطني التسعة، من منفاه بالمغرب، والذي اغتيل في ظروف غامضة، بعد أن بدأ يتحدث عن الفساد داخل المؤسسة العسكرية. ثم طلبوا من العقيد المتعاقد، الامين زروال أن يترشح إلى انتخابات 1996، حتى يضمنوا استمرار هيمنتهم على كل الملفات السياسية والوضع الأمني والاقتصادي في البلد. لكن زروال رفض استمرار لعب دور نصف الرئيس وأخذ يطالب بسلطات أكثر، يخولها له دستور البلد، ما جعله يدخل في خانة المغضوب عليهم من طرف قادة الأركان. بعد إعلان زروال عن نيته في التنحي والبعض قال إنه أرغم على التنحي عن السلطة قبل انتهاء فترة رئاسته، بادر الجيش إلى الإعلان عن مرشحه الجديد، وزير الخارجية الاسبق عبدالعزيز بوتفليقة، الذي كان قد غادر البلاد لأسباب غامضة، بعد اندلاع أزمة 1992. لم يكن بوتفليقة مجهولاً لدى المؤسسة العسكرية التي حاولت، منذ إلغاء انتخابات 1992 الاحتفاظ بورقته من دون اللجوء إليه إلا عند الضرورة. لكن الأمور في نهاية التسعينات استفحلت، إذ أن العنف وسياسة الاغتيالات خارج القانون والاختطافات القسرية أضحت كل ما يميز صورة الجزائر بالخارج. اهتزت صورة الجزائر بشكل لم يسبق له مثيل، فحتى الدول التي أيدت ولو بصمت تدخل الجيش لوضع حد لأول تجربة ديموقراطية في شمال افريقيا، أصبحت تنتقد سياسة العنف وتسليح المواطنين المدنيين التي لجأ إليها جنرالات الجزائر. وصل الوضع إلى نقطة من العبث، حيث أصبح من الضروري إعادة كل الحسابات والمجيء بشخص يمكنه أن يغير هذه المعادلة ويعيد إلى الجزائر هيبتها في المنظومة الدولية. إن العزلة الدولية التي عانت منها الجزائر وانهيار اقتصادها، أرغما قادة الجيش على اللجوء إلى بوتفليقة واقناعه بالعودة من منفاه الاختياري. كان الجيش يخشى بوتفليقة ويدرك حنكته السياسية، فالرجل أمضى أكثر من ربع قرن متربعاً على رأس الديبلوماسية الجزائرية وترك بصماته على سياسة دول عدم الانحياز، ومنتديات ثالثية أخرى. لكن منذ البداية حاول قادة العسكر إضعاف بوتفليقة داخلياً، من خلال تأييدهم الصريح والمعلن له ومباركة ترشيحه، حيث أصبح ينظر اليه على أنه مرشح المؤسسة العسكرية. وما زاد الطين بلة هو قرار سبعة مرشحين الانسحاب بعد أقل من أسبوع على موعد الانتخابات الرئاسية، بداعي حسم الأمور من طرف الجيش لصالح بوتفليقة. كان جنرالات الجيش يؤمنون بأنهم هم المؤتمنون على تسيير الجمهورية وضمان استمراريتها واختيار قادتها. أعلن بوتفليقة منذ البداية أنه لن يقبل أن يكون"ثلاثة أرباع رئيس". فالرجل صاحب القامة النابوليونية واثق من قدراته السياسية على خوض المعارك التي تحدق به. وفي نيسان أبريل 1999 تم انتخابه رئيساً للجمهورية الجزائرية. كانت التحديات جسيمة وعلى كل الواجهات، الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، أضف إلى هذا أنه وجد نفسه فاقدا للشرعية الشعبية نتيجة انسحاب المرشحين السبعة وتمادي الجيش في مؤازرته علناً. عمد الرئيس إلى خلق هامش للعمل، إذ نادى بقانون الوئام الوطني الذي منحه شيئاً من الشرعية الشعبية المنشودة. ثم عمل على إعادة بناء صورته داخل الجزائر وإعادة صياغة سياسة خارجية أخرى، يمكن من خلالها أن تخرج الجزائر من العزلة الدولية، فأبعد عددا كبيرا من موظفي السلك الديبلوماسي في الخارج ووضع مكانهم رجاله، ومع الوقت بدأت هذه الخطوة تعطي ثمارها بتحسن صورة الجزائر، الشيء الذي انعكس إيجابا على سلطة بوتفليقة وصورته داخل البلد. وهكذا بدأ يلح أكثر على صلاحياته التي ينص عليها الدستور، كما بدأنا نسمع عن خلافات مع المؤسسة العسكرية. لكن بوتفليقة بتجربته الطويلة وكربان سفينة محنك، كان يعي جيداً متى يمكن مواجهة الأمواج ومتى يتوجب تفاديها. وهكذا عمل في الفترة الانتخابية الأولى على إعادة وضع الجزائر على الخريطة السياسية الدولية، ومحاولة البدء في هيكلة اقتصادها، وبنجاحه فيما خطط له اتسع هامش عمله وكسب تأييد الكثير من الجزائريين الذين رأوا فيه في البداية مرشح المؤسسة العسكرية. لم يغب هذا عن أذهان قادة الجيش، فعملوا على دعم علي بن فليس، مدير ديوان بوتفليقة خلال الحملة الانتخابية الأولى والوزير الأول سابقاً، وذلك أثناء الحملة الانتخابية الثانية لرئاسة الجمهورية. كانت الحملة شرسة بكل المعايير، حيث يقال أن رئاسة الأركان حاولت التخلص من بوتفليقة، كما دعم جزء من أعضاء حزب التحرير الوطني منافسة الامين العام للحزب علي بن فليس للرئيس بوتفليقة. لكن الرئيس وعلى عادته، شن من وراء الكواليس حملة مضادة ضد بن فليس، فشق الجبهة إلى نصفين، واحد مؤيد لإعادة ترشيحه وعلى رأسه رئيس الحكومة السابق عبدالعزيز بلخادم، الذي تزعم حملة أطلق عليها اسم حملة"التصحيحيين"داخل حزب التحرير، والثاني مؤيد لبن فليس يسانده بعض قادة الجيش والبرلمان. لم يحاول بوتفليقة الدخول في مواجهة مباشرة ضد أركان الجيش خلال الفترة الرئاسية الأولى. لكن بعد انتخابه للولاية الثانية أخذت المواجهة طابعاً مباشراً من خلال حملة من الإحالات على التقاعد أو التنقلات لعدد من كبار قيادات الأركان ومن جملتهم رئيس الأركان الفريق محمد العماري، الذي استقال من مهماته - أو أقيل على الأرجح - في 3 آب أغسطس 2004. وهكذا تمكن من الحد من سلطة المؤسسة العسكرية في إدارة بعض الملفات السياسية. وعكست هذه الخطوة نجاحه في السيطرة على جزء مهم من مراكز القرار التي افتقدها في ولايته الأولى. نجح بوتفليقة في ما فشل فيه رؤساء سابقون: إضعاف نسبي لسلطة الجيش وتقوية مؤسسة رئاسة الجمهورية. لكن هذا النجاح النسبي لم يتوج بداية لانطلاقة جديدة نحو بناء دولة المؤسسات وسلطة القانون ودعم المسار الديموقراطي، عبر توافر معارضة سياسية حقيقية، والقضاء على آفة الإرهاب والعمل على المصالحة الوطنية، مع التركيز على محاسبة المتورطين في الانتهاكات الجسيمة. قويت سلطات الرئيس بوتفليقة من دون أي انعكاسات ايجابية على التحديات الكثيرة التي يعرفها البلد. أرباح مداخيل البترول لم تغير الكثير من المعاناة اليومية للمواطن الجزائري البسيط، كما أن تغلغل الفساد في كل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أدى إلى الإثراء غير المشروع والسريع لشريحة قليلة من ذوي النفوذ. من دون شك لعبت مؤسسة الرئاسة في ظل بوتفليقة دوراً حاسماً في بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية، ولكنها فشلت حتى الآن في إحداث النقلة التي تنتظرها الجزائر منذ الإستقلال. ومع تدهور الوضع الصحي للرئيس بوتفليقة هل يمكن أن نتفاءل بانتقال ديموقراطي حقيقي في ولاية ثالثة أم انها مؤشر الى عودة الجيش من جديد؟ * كاتب واكاديمي مغربي