قلَّ أن وجدتني مقتنعاً بتعدد الهوية الإبداعية لدى الكتاب والفنانين. ذلك أن الحياة برمتها تكاد تكون غير كافية لإنجاز ما يريد المبدعون إنجازه في أي مجال من المجالات، فكيف بهم لو ذهبوا الى تشتيت أنفسهم بين أكثر من مجال أو نشاط فني وأدبي. فتوزع الكاتب بين نوعين أدبيين، كالشعر والرواية على سبيل المثال، قد يحرمه من الذهاب عميقاً الى تخوم أي منهما... لهذا السبب على الأرجح وجدتني متردداً في قراءة رواية"طعم أسود... رائحة سوداء"للشاعر اليمني علي المقري، الذي كنت أعرف عنه انقطاعه للشعر وحده، إضافة الى اهتماماته النقدية والتاريخية المتعلقة ببلده اليمن. لكن هذا التردد ما لبث أن تحول لدى الشروع في القراءة الى منعة حقيقية والى شغف بالغ بمواصلة القراءة حتى النهاية، ما يعني أن فكرة الثنائية الإبداعية ليست صائبة في كل الأحيان وأن لكل قاعدة استثناءاتها... قد يعود الفضل الأساس في جمالية رواية"طعم أسود... رائحة سوداء"الى غرابة الحدث الروائي نفسه كما الى غرابة الأماكن التي يدور فوقها الحدث، من دون أن يقلل ذلك بالطبع من ذكاء المعالجة ورشاقة السرد وسلاسة اللغة. فعلي المقري يتناول في روايته شريحة اجتماعية يمنية لم يسبق لكثرٍ منا أن سمعوا بها من قبل أو عرفوا عن حياتها وتقاليدها وأوضاعها المدهشة والصادمة شيئاً يذكر، وأعني بها شريحة الأخدام. والأرجح أن جمع التكسير هنا محرف قليلاً عن الخدام أو عن الخدم، ومفردها خادم، وفق التسمية المحلية لتلك الطبقة الأشد فقراً والتي يعيش العشرات من أبنائها في العاصمة صنعاء، بينما يعيش معظمها في حي شديد البؤس والتواضع من أحياء مدينة تعز، يطلق عليه سكانه اسم"محوى زين". تبدأ الرواية بالإشارة الى المرافعة التي قدمها رباش العبد، أحد الأخدام المسجونين بتهمة الاعتداء الجنسي على بعض نساء مخدوميه، في وجه القاضي المكلف بمحاكمته. وفي تلك المحاكمة يشير رباش الى أن الحياة نفسها هي فعل خيانة يقوم به الأفراد كما تقوم به الجماعات وأن ما يفعله الفقراء من سرقة أو اغتصاب أو تمرد ليس سوى خيانة ثانية ناجمة عن الخيانة الأولى التي يقوم بها القادة والمتسلطون والأثرياء الجشعون. أما القاضي"الخائن"بدوره، وفق رباش، فلا يجد حجة يبرئ بها ساحة هذا الأخير سوى حجة الجنون وفقدان العقل. على أن محاكمة رباش العبد لم تكن سوى المدخل الأولي للولوج الى عالم الرواية الذي تتداخل في مناخاته الأسطورة مع الواقع والمجازي مع الحقيقي. لكنه يقوم في جوهره على فضح التقاليد الاجتماعية والهوة المخيفة التي تفصل بين الطبقات، بحيث يكفي أن يتزوج رجل عادي بامرأة ذات منشأ وضيع ممن عرفوا بطبقة"المزينين"حتى يكون ذلك سبباً لاهتراء جسده وتحلله بالكامل. يشكل الفقر والجنس العمودين الفقريين الأساسيين لرواية علي المقري. ما يجعل التهالك على الشهوة والانغماس البوهيمي في الملذات يبدو وكأنه الرد الطبيعي على الظلم والاستبداد والشعور بالدونية والمهانة والجوع. فالصبية العاثرة الحظ"جماله"تتعرض للرجم حتى الموت بسبب حملها غير الشرعي من بطل الرواية الذي يتم العفو عنه لصغر سنه، لكنه لا يلبث أن يقيم علاقة غرامية أخرى مع شقيقتها الأخرى المسماة الدغلو. وهو ما يضطره للهرب مع حبيبته الجديدة خوفاً عليها من القتل، ليجد نفسه فجأة في تلك الضاحية البائسة المسماة"محوى زين"والتي تعيش فيها مجموعة من الأخدام. وهو يضطر للعيش هناك على رغم أن أحداً من البيض لا يسكن ذلك العالم المقتصر على السود وحدهم. نتعرف في الرواية الى شخصيات عدة يجمع بينها العوز وسوء التغذية والجهل والنزوع الشهواني. نتعرف الى عيشة التي تستضيف العاشقين الهاربين في منزلها من دون أن تجد حرجاً في إغواء عبدالرحمن أو إغواء غيره من الرجال. والى أخيها سرور الذي يدخل بدوره الى السجن بتهمة أخلاقية ثم لا يلبث أن يخرج ليعيش مع شقيقته. والى الحرتوش الذي استطاع بعضلاته المفتولة وفحولته غير العادية أن يوقع في شركه معظم نساء الأخدام. وثمة الطبيب الأبيض ذو الأعمال الخيرة الذي، بسبب وعيه السياسي ونزعته الإنسانية، لا يتردد في الزواج من سكرتيرته السوداء الوضيعة المنشأ. ومع ذلك، فإن البطولة الحقيقية للرواية في تقاسمها كل من الفكرة والمكان. فالأولى تبدو شبيهة باللقية الثمينة لأنها تضع إصبعها على عالم غريب وغير مألوف، والثاني يقودنا بدوره الى اكتشاف الحياة المرعبة لأولئك الذين يعيشون في أحزمة البؤس والمهانة التي تحيط بالكثير من العواصم والمدن العربية الأساسية. وليس غريباً على الأخدام الذين يموتون من طريق البلهارسيا والملاريا، أو من طريق الجوع والاقتتال اليائس أو في غياهب السجون والمعتقلات أن يروا في بعض الحركات الثورية أو الدعوات الاشتراكية المتنوعة ما يفتح لهم بصيص ضوء يتيم وسط ذلك الظلام الخانق. على ان الأكثر مدعاة للدهشة هو قرار السلطات المحلية إزالة حي الأخدام برمته بغية توسيع الطريق الموصلة الى المدينة الأم بحيث تنتهي الرواية بسؤال كبير ومفتوح حول مآل ذلك العالم الذي يبدو من أساسه وكأنه غير قابل للتصديق.