لا أستطيع أن أحيا حياة متناثرة، أو أن أعيش في عزلة. لقد بعث بي الى المدرسة، بعث بي الى سويسرا لاستكمال دراستي. اني أكره كساء الأرض، أكره أشجار الموسكي، وأكره الجبال. فلأستلق الآن فوق هذه الأرض المنبسطة تحت سماء شاحبة تسير فيها السحب مبطئة. العربة تزداد وضوحاً وهي مقبلة على طول الطريق. الأغنام تتجمع وسط الحقل، الأطيار تتكتل في منتصف الطريق، لا حاجة بها الى أن تطير. دخان الخشب يتصاعد. بدأت خشونة الفجر تتلاشى. النهار يحبو. انه يسترجع لونه. المحاصيل تكسو النهار بلونها الأصفر. الأرض عالقة في ثقل تحت قدمي. لكن من أكون؟ أنا التي أستند الى الباب وأرقب ظل أنفي محاطاً بدائرة من النور؟ يطوف بفكري في بعض الأحايين لم أبلغ العشرين بعد أني لست امرأة، وأني لست إلا ذلك الضوء المتساقط على هذا الباب، على هذه الأرض. يخيل إليّ أحياناً أني فصول السنة، أني يناير، مايو، نوفمبر، أني الرغام، الضباب، السحر. لا أستطيع أن يدفع بي الى جانب، أو أن أسير بهوادة، أو أن يقوم بيني وبين الناس ألفة، لكني الآن وأنا مستندة هنا الى الباب حتى كاد يترك أثراً على ذراعي، أشعر بالثقل الجاثم بين جوانحي. لقد كنت أحمل بين أعطافي شيئاً صلباً ثقيلاً في المدرسة، في سويسرا. لم يكن هذا الشيء زفرات وضحكات، ولا عبارات عميقة تدل على الحذق، أو الخيالات الغريبة التي تمر بذهن رودا عندها تنظر عبرنا من فوق أكتافنا، أو دوران جيني حول نفسها في كتلة واحدة أطرافاً وجسداً. ان ما أهبه شيء قاسٍ. لا أستطيع أن أسير هنا وأقيم بيني وبين الآخرين ألفة، أني أؤثر حملقة الرعاة عندما يلتقون في الطريق، ونظرات الغجريات وهن الى جوار عربة في أخدود يرضعن أطفالهن كما سأرضع أطفالي، سرعان ما سيأتي من أحب وقت الظهيرة الحارة. عندما يطن النحل حول الأزاهير. سيقف تحت شجرة الأرز. سأجيبه بكلمة واحدة على الكلمة الوحيدة التي تصدر عنه. سأهبه مكنون نفسي. سأنجب أطفالاً. سوف يكون لي خادمات يرتدين المبدعات، وخدم يحملون المذراة، ومطبخ يجلبون اليه الحملان المريضة في سلال لتدفأ... سأكون مثل أمي، أغلق الصناديق وأنا صامتة. اني الآن جوعي، سوف أتحدث الى طيفي، اني أفكر في الخبز المقدد والزبد والصحاف البيضاء في حجرة مشمسة. سأعود ثانية عبر الحقول. سأمضي على طريق الحشائش هذا بخطوات قوية رتيبة، انحرف حيناً لأتجنب بركة ماء خلفها المطر، وأقفز حيناً آخر برشاقة الى كتلة من الخشب... ها أنا أعود كما يعود القط أو الثعلب وقد صبغ الصقيع فراءه باللون الداكن وأصبحت أقدامه جافة من أثر الأرض. * هذه الزاوية تتذكر كتاباً وتدلّ القراء اليه. رواية"الأمواج"للبريطانية فرجينيا وولف 1882 - 1941 صدرت في 1931. ترجمها الى العربية مراد الزمر وصدرت في القاهرة عن"دار الكاتب العربي"في 1968. المنشور أعلاه مقطع منها.