بعد النجاح الذي حققته تجربة"الصحوات السنية"في العراق في مواجهة القاعدة، ومساهمتها الكبرى في إحلال الأمن، فإنّ دعوات متعددة بدأت بالبروز في أوساط سياسية وعسكرية أميركية لتكرار التجربة في مناطق أخرى. هذه الدعوات بدأت ترى النور، أخيراً، من خلال المعلومات التي تتحدث عن البدء في برنامج تدعمه الولاياتالمتحدة الأميركية والحكومة الباكستانية لإنشاء"جيش قبلي"، في المناطق القبلية الباكستانية المحاذية للحدود الأفغانية، لمواجهة كل من القاعدة وطالبان. تبدو المعضلة الرئيسة أمام محاولة"استنساخ"نموذج الصحوات العراقية أنّها تقفز على الشروط الرئيسة لنجاح التجربة، وتتعامل مع المخارج والنتائج فقط بدلاً من الأسباب والمداخل. إذ يجري التركيز على"العامل الأمني"مع أنّ الأصل في تجربة الصحوات السنية هو العامل السياسي والاجتماعي. الحلقة المفقودة في قراءة تجربة"صحوات العراق"أنّها نتاج تحوّل في رؤية التيار العام للمجتمع السني تجاه مصادر التهديد والخطر، إذ بدأت مجموعات سُنيّة واسعة تعيد تشكيل إدراكها السياسي، بعد ثلاث سنوات من الاحتلال الأميركي، وفقاً لثلاثة معطيات رئيسة: المعطى الأول، أنّ النفوذ الإيراني يمثل خطراً اكبر من الاحتلال الأميركي، إذ أنّ الاحتلال الأميركي سيزول عاجلاً أم آجلاً، أمّا النفوذ الإيراني فهو دائم ويتلاعب بالمعادلات الاجتماعية والمذهبية والسكانية العراقية. المعطى الثاني، انهپفي الوقت الذي تحظى فيه القوى الشيعية بدعم عسكري ومادي وسياسي إيراني فإنّ الوسط العربي المحيط متردد وغير جاد في دعم السنة، ما يجعل المعادلة الإقليمية غير متكافئة بين السنة والشيعة. المعطى الثالث، أنّ مواجهة الاحتلالين معاً الأميركي والإيراني غير واقعية وليست ممكنة، ما يدفع إلى الاتجاه نحو العدو الأخطر النفوذ الإيراني ومهادنة العدو الآخر الولاياتالمتحدة، بل الاستعانة به لقلب المعادلات العسكرية والأمنية والسياسية. فمن رحم هذه القناعات وُلد مشروع"الصحوات السنية"، وتمّ تسويقه عند الأميركيين من قبل قيادات ميدانية سابقة في المقاومة العراقية وزعامات عشائرية وتبنّته الإدارة الأميركية، وليس العكس. هناك سمات عامة تشكل قواسم مشتركة بين المقاومة العراقية وحركة طالبان في كل من باكستان وأفغانستان، في مقدمتها وجود الحاضنة الاجتماعية والسياسية، متمثلة في المجتمع السني في العراق والبشتوني في باكستان وأفغانستان. إلاّ أنّ البيئة السياسية الباكستانية تختلف بصورة كبيرة عن العراق، ما يحول دون نجاح فكرة الصحوات. فالشعور بالخطر الإيراني الذي قلب المعادلات في العراق يغيب عن باكستان، والمجتمع البشتوني القبلي لا يزال يحتضن حركة طالبان، ولم يرفع الغطاء عنها، ما يجعل أي نصر عسكري أو أمني يحققه مستقبلاً الجيش القبلي أو القوات الباكستانية نجاحاً غير ثابت، وهشاً، إذ سرعان ما ستتمكن طالبان من إعادة إنتاج قوتها وقدراتها مستفيدة من التعاطف الاجتماعي في تلك المناطق. صحيح أنّپهنالك وجه شبه كبيراپبين المقاومة العراقية وحركة طالبان: فهما ناجمتان عن مشكلة سياسية. لكن الصحوات هي في الأصل تمثل تحوّلاً نوعياً كبيراً في الموقف السياسي قبل الولوج إلى البرنامج الأمني، وهو ما لا يتوافر في برنامج"الجيش القبلي"في منطقة القبائل الباكستانية، إذ لا تزال المشكلة السياسية تلعب دوراً كبيراً في إنتاج التعاطف مع طالبان. المفارقة الأهم أنّ طبيعة المشكلة السياسية في منطقة القبائل الباكستانية مغايرة تماماً للمشكلة السياسية العراقية. ما يجعل مواجهتها مختلفة تماماً عن النموذج العراقي المتمثل في الصحوات. فالمشكلة الباكستانية، التي أنتجت صعود حركة طالبان، ليست مرتبطة بالنزاع الطائفي أو حتى العرقي، الذي يتيح للاحتلال الخارجي التلاعب به، وتوظيف التناقضات الداخلية لصالحه. صعود"طالبان باكستان"مرتبط بالأزمة السياسية العامة التي تعصف في باكستان، وبصورة خاصة أزمة المركز والأطراف بين العاصمة من جهة وإقليم المناطق الشمالية الغربية وإقليم بلوشستان من جهة أخرى. إذ تعاني هذه الأقاليم من غياب السلطة المركزية وشيوع الفوضى الأمنية والسياسية، فضلاً عن فشل مشروع التنمية وعدم وجود بنية تحتية في تلك الأقاليم ما يتركها نهباً، إما لحكم القبائل القوية أو العصابات المسلّحة،پويوفر التربة الخصبة للجماعات الراديكالية ولحركة القاعدة للنمو والصعود والانتشار. فضلاً عن الدور الذي تلعبه أزمة الشرعية السياسية الحالية التي تمسّ الهوية الدينية للبلاد، وتتجلى في بعض جوانبها في الصراع بين الحكومة المركزية وحركات الإسلام السياسي بصورة عامة، معپوجود بيئة إقليمية مضطربة تساعد على"توطين الأفكار الجهادية"وانتعاشها، سواء على الحدود الأفغانية والبنية الاجتماعية المشتركة بين القبائل الباكستانية والأفغانيةپأو ما يرتبط بالصراع مع الهند وحركات التحرر الكشميرية، التي كانت، خلال السنوات السابقة، تحظى بدعم حكومي كبير. والحال أنّ مواجهة طالبان الباكستانية لا يتم من خلال تشكيل"ميليشيات قبلية"، وقد جُرِّبت هذه الفكرة سابقاً ولقيت فشلاً كبيراً، إنّما من خلال تدشين مشاريع تنموية وخدماتية وتعليمية في تلك المناطق، وضخ ملايين الدولارات لمساعدة الحكومة المركزية على فرض سلطتها السياسية والقانونية، وبناء البنية التحتية أولاً، قبل التفكير في استخدام السلاح ومقاومة الحركات المسلحة. هنالك ضرورة ماسة لإعادة بناء الثقة بين السكان في تلك المناطق وبين الحكومة المركزية. فالحل الاقتصادي والسياسي يسبق الخيار الأمني والعسكري. وهذا يستدعي من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي تحويل الأموال الهائلة التي تُدفع على الجيش والقوى الأمنية والتجسس والأعمال العسكرية إلى المشاريع الاقتصادية والتنموية التي تشكل المفتاح الذهبي لمعالجة مشكلة تلك المناطق جذرياً. أمّا إصرار الولاياتالمتحدة على استخدام السلاح والقوة العسكرية لتوجيه ضربات عسكرية لحركة طالبان، بل الضغط على الحكومة الباكستانية للدخول في مواجهات مسلّحة مع حركة طالبان والعشائر، فكل ذلك لن يؤدي إلاّ إلى زيادة التعاطف الاجتماعي في تلك المناطق مع هذه الحركات، مع اكتساب ذلك"طابعاً دينياً"يُعطي المشروعية لهذه الحركات ويُوفر لها أدوات التعبئة والتجنيد والدعاية السياسية التي تجُذّر الأزمة الباكستانية عموماً ولا تحلها. * كاتب أردني.