العابر مع نهاية الحرب الباردة في آخر الثمانينات تساءل كثيرون عما اذا كان قلم جون لوكاريه سيتمكن من النجاة. بنى الجاسوس السابق عالمه الموحش من التباس الانتماء والقيم الأخلاقية، وصراع الولاءات الشخصية والمهنية. منحت الثنائية أعماله جواً حاداً، جذاباً وقاتماً، واقتربت بها من العبثية الأوروبية ووجودية ما بعد الحرب العالمية الثانية. فقد لوكاريه للأسف تأرجحه بين الشك واليقين، وبات بعد انهيار العدو الشيوعي داعية عاطفيا ضد الشركات الكبرى التي تتحكم اليوم بالسياسة. في"الحدائقي الوفي"تناول حرب زوجين ضد شركات الأدوية التي تمتحن فعالية منتوجاتها في القارة الأفريقية الفقيرة على حساب حياة أبنائها. وفي روايته الواحدة والعشرين"رجل مطلوب جداً"الصادرة أخيراً عن دار هودر وستوتن، بريطانيا، يجمع الالتزام الإنساني ولاأخلاقية المصارف والتشويق البوليسي. بطله شاب يؤويه زوجان تركيان، مكرهين، في هامبورغ. يقول عيسى انه شيشاني لكنه لا يعرف اللغة. انه مسلم متدين ويجهل الفارق بين السنة والشيعة. يزعم انه لاجئ لكنه يملك مفتاح صندوق يحوي ملايين الجنيهات في مصرف بريطاني. يثير اهتمام كثيرين. الاستخبارات التي تظنه ارهابياً وتراقبه لكشف طريقة تمويل امام"معتدل"العمليات. صاحب المصرف الذي يود التعويض عن تعامل والده مع الاستخبارات البريطانية وغسله أموال المافيا الروسية. وأنابيل المحامية ابنة الطبقة العليا تقاوم ترحيله تصحيحاً لفشلها في حالات مماثلة سابقة. في خمسة عقود من الكتابة هجا لوكاريه المؤسسات الرجالية من سياسية وغيرها ووجد الخلاص، الأخلاقي والعاطفي، في النساء. أنابيل مثالية جميلة دافئة ترفض امتيازات طبقتها وتتبنى قضية المهاجرين المضطهدين. تيسا في"الحدائقي الوفي"تتحدى شركات الأدوية حتى تقتل فيتبنى زوجها حربها. هانا، الممرضة الكونغولية، في"أغنية الإرسالية"تمثل أجمل ما في أفريقيا لصديقها الخائب بعد انقشاع الأوهام. عمل ديفيد كورنويل الذي تبنى اسم لوكاريه ليكتب في الاستخبارات، وتجسس لحساب سياسيين أدرك باطراد أن عينيه تنظر الى ما يرونه وتريان شيئاً مختلفاً. قال أخيراً انه أحس أثناء تجسسه برغبة في العبور الى الجهة التي تجسس عليها الاتحاد السوفياتي ليس لأنه أغراه ايديولوجياً بل لكي يرى الحياة على الضفة الأخرى فحسب. غونثر باكمان في الرواية أفضل الشخصيات رسماً لاستناده الى الجواسيس الذين عرفهم الكاتب جيداً والى عالم التقط تفاصيله الدقيقة. لا أحداث كثيرة في الرواية البطيئة التي تطول حواراتها وتتحول وسيلة لطروحات وهموم سياسية وأخلاقية غيّر الزمن تفاصيلها لكن جوهرها بقي يشير الى عيب بشري أصلي. يكره التجاوزات التي ارتكبتها الحكومات الغربية بحجة الفاع عن النفس ضد الارهاب، وفقدان الغرباء فرديتهم لتلوينهم بملامح البعبع نفسه. لا يساعده عيسى السلبي على جذب القارئ، وان شكا من آثار تعذيب نفسي وجسدي كتقيح ثقوب السجائر في قدميه المحروقتين. هذا الغريب المزعج الذي لا يثير حس الشفقة الأدبي ليس في النهاية سوى امتحان للحساسيات الغربية، ووسيلة لفضح المبادئ في تراجعها وتلعثمها. الحب الآخر أصدرت مارلين روبنسون"تدبير منزلي"في 1980 وصمتت ربع قرن. بدا أنها قالت كلمتها وانسحبت مثل ج د سالنجر ونل هاربر لي اللذين انعزلا بعد"الحارس في الجاودار"وپ"قتل طير ساخر". ليس تماماً. عادت لتضرب بقوة في 2004 مع"غيلياد"التي حازت على جائزة بوليتزر وكتبت في شكل رسائل من الواعظ الطيب جون ايمز الى ابنه. تزوج ايمز شابة تصغره عقوداً، وقلق، وهو يقترب من العبور الأخير، على مصير ابنه بالعمادة جاك بوتون الذي غادر بلدته غيلياد منذ عشرين عاماً بعدما أنجب طفلاً غير شرعي. تتابع روبنسون حياة جاك بوتون في"البيت"الصادرة في بريطانيا عن دار فيراغو المقتصرة على أعمال الكاتبات. يدخل جاك بيتاً صامتاً تركه صاخباً بأسرة من عشرة أفراد. والده عجوز مريض، وشقيقته غلوري تعنى به بعد أن فسخت خطوبتها من رجل اكتشفت أنه متزوج. تقترب من وسط العمر وتتحمل مسؤولية فرضت عليها ولا تستطيع رفضها. تلتبس مشاعرها عندما تعرف أن شقيقها الأكبر يعود الى البيت بعد انهيار زواجه، وتتغلب رابطة الدم على اعترافها ان جاك كان خروف الأسرة الأسود الذي لم يشعر أحد أنه خسر شيئاً برحيله. يستكشف الاثنان أخوتهما التي تشرف أحياناً على الغزل كما يحدث لأشقاء وشقيقات كثيرين يفترقون صغاراً ثم يلتقون بالغين فتختلط الأخوة بالحب الآخر. في سعيه نحو المصالحة مع ابنه الذي أغضبه لهجره طفله، يتزلف الكاهن لجاك ويعامل غلوري كأنها خادمتهما. شعر أنه السبب في جموح ابنه نحو الإدمان على الكحول وكره الذات، وعامله بطريقة أفضل من أولاده الآخرين، لكنه لم يغفر له حقاً وان تظاهر بذلك. يكبح غضبه الذي يطل بعنف من حين الى آخر، ويتسبب بأذى نفسي كبير لا يستحقه جاك الذي يشعر أنه يتعرض لاغتيال الشخصية. تتوتر علاقته أيضاً بعرّابه الواعظ ايمز الذي يظن انه يحاول سرقة زوجته لكن جاك يعتبره والده الآخر ويجهد لإرضائه. تقوم الرواية على عودة الابن الضال لكن هذا لا يقنع القارئ بأنه عاجز حقا عن التعامل مع حياته. يصور نفسه ضحية مأساة اغريقية عندما يقول لغلوري ان حياته منفى طويل من العالم العادي، وان عليه تعلم العادات واقناع نفسه بأنها عاداته. رسم جون ايمز جاك بمهارة في"غيلياد"لكن وقوفه وسط الضوء في"البيت"يبدو أكبر من استحقاقه. أميركا الجاهلة قبل أيام من الإعلان عن فوز الفرنسي جان - ماري غوستاف لوكليزيو بنوبل الأدب قال السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية ان الأدب الأميركي"منعزل جداً وضيق جداً ... لا يترجمون"الأدب الأجنبي"ما يكفي أو يشاركون في الحوار الأدبي الكبير. هذا الجهل يقيد". كان هوراس انغدال يتحدث الى صحافي أميركي في"أسوشييتد برس"ورأى الكتاب الأميركيين"حساسين أكثر مما للتيارات في ثقافتهم الجماعية. ثمة أدب قوي في كل الحضارات الكبيرة، لكنك لا تستطيع تجنب حقيقة أن أوروبا لا تزال مركز العالم الثقافي". ديفيد رمنيك، رئيس تحرير مجلة"ذا نيويوركر"رد ان التاريخ الأدبي هو الذي يحكم على الأكاديمية السويدية بالجهل لتجاهلها مارسل بروست وجيمس جويس وفلاديمير نابوكوف، وكلهم من أوروبا. تردد أن اللائحة السرية ضمت هذه السنة خمسة أسماء بينها الأميركيان فيليب روث وجويس كارول أوتس، واستنتج معلقون أميركيون أن رأي انغدال يعني انعدام فرصة فوز كاتب أميركي ما دام في منصبه. كانت توني موريسون، صاحبة"محبوبة"وپ"أكثر العيون زرقة"آخر من فاز من أميركا بنوبل في 1993، ولم يكن انغدال، الناقد الخبير بالأدب الفرنسي، في الأكاديمية يومها. في المرآة اشتهرت كريستين أنغو بأدبها الذاتي وقسمت القراء والنقاد الفرنسيين بين معجب بشجاعتها وساخر من أدبها الذي يمثل كل ما هو سيئ في الأدب الفرنسي. تروي في آخر كتبها"سوق العشاق"علاقتها بمغني"راب"أفريقي وتصف في 300 صفحة ممارسة الجنس في المصعد والنقاش حول من سيتصل بمن وما اذا كان عليهما الذهاب الى المقهى أو لا. للمرة الأولى يصل النقد حد الإعدام وفق ناقدة في" لو بوان"أوضحت ان صنع النجوم ثم الدوس عليها في التراب من شيم الفرنسيين. قد تتعدى المسألة كتاباً مضجراً الى حساسيات اجتماعية. في الوقت الذي يرى كثيرون ان الرئيس الفرنسي ساهم في تعزيز مبدأ اللذة بالزواج ثلاث مرات وعرض عواطفه على الجمهور كأي مواطن غربي عادي، يجد آخرون أن الحس المحافظ عاد ربما كرد فعل. استخدمت رواية أنغو غطاء لانتقاد علاقتها بأفريقي التي وصفها البعض بپ"الارتباط غير الملائم". مدح النقاد روايات سابقة لأنغو تصف حب المحارم والجنس مع مصرفي مسن وشخصيات من الوسط الأدبي. هذه المرة"هربت المرأة البيضاء الآتية من أسرة بورجوازية جيدة مع الحدائقي فمزقت ارباً"وفق ناقدة.