فكرنا العربي الحديث والمعاصر فكر إشكالي. الحداثة والعلمانية والديموقراطية والعقلانية كما الهوية والتراث والتقدّم والغرب، جميعها قضايا اشكالية لم ينتهِ إزاءها الفكر العربي الى موقف حاسم يُبدِّد حال المراوحة والضياع وشقاء الوعي التي خلَّفتها صدمة الغزو الأوروبي لديار العرب مطلع القرن التاسع عشر. إلا أن مفهوم"التاريخ"يبقى الأكثر إشكالاً والتباساً، ان لجهة تصوّره ومغزاه أو لجهة راهنيته وحاسميته في السياسة والمجتمع العربيين، وتجلّي ذلك كله بصورة وبأخرى في الخطاب السياسي العربي الحديث الذي كثيراً ما تعامل معه انتقائياً، يستحضره ساعة يشاء، أو ينفيه ويلغيه تبعاً لدواعي الأدلجة وإملاءاتها. فهل التاريخ هو ديمومة وثبات وتكرار أبدي أم هو تحوُّل وتجدُّد وانقلاب متواصل؟ هل يمكن توظيفه في الحراك السياسي والاجتماعي في واقعنا العربي الراهن أم لا بد من جاوزه وإلغائه من أجل تغيير هذا الواقع والارتقاء به؟ هل يحمل فيه قيم الحرية والديموقراطية والتقدم المنشودة أم أنه عبء على النهضة وعائق دونها؟ في ظل هذه الأسئلة والإشكالات المربكة تعامل المثقفون العرب مع إشكال التاريخ. الليبرالي كما الإصلاحي، الأصولي كما الحداثي، التراثي كما التغريبي، فتّشوا جميعاً في التاريخ عن أسانيد لإيديولوجياتهم أو هم توسلوا إلغائه ليستقيم خطابهم السياسي وتثبت تصوّراتهم الإيديولوجية. في هذا الإطار بالذات يندرج موقف الإصلاحيين الإحيائيين من النهضة العربية. من رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني الى محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا، فوراء خطابهم الإحيائي كمنت دائماً رؤية للتاريخ ألفته منجزاً تاماً مثالياً في ماضٍ أُضيفت عليه القداسة، في استعادته والتواصل معه كل أسباب التقدم والنهوض، وفي الابتعاد عنه أصل الخلل والتراجع والبلاء. وهكذا فالتقدم الذي حققه الغرب، من منظور هؤلاء، ما هو إلا"بضاعتنا"التي اقتبسها من هذا الماضي المؤسطر والتي يجب أن نستردّها منه كي نتقدم من جديد. لطالما تكررت هذه المقولة في خطابنا السياسي منذ القرن التاسع عشر الى الآن، وقد فاقمت في استعادتها نكسة حزيران يونيو 1967 وما تلاها من ارتدادات سلبية على صعيد النهضة العربية المأمولة. فبعيد النكسة كتب حسن صعب:"كانت مواطننا العربية منذ خمسة آلاف عام المواطن الأولى للحضارة الإنسانية... ونحن على يقين أنه ما دام لنا أصل الشجرة، فلا بدَّ لنا أن نبلغ فروعها المتسامية في الفضاء. وكما صنعنا الحضارة بالأمس فسنعود لصنعها في الغد". ويُكرِّر راشد الغنوشي المقولة ذاتها بقوله:"نحن الإسلاميين المعاصرين استحدثنا مشكلات عدة مثل مشكلة الديموقراطية... لا ينبغي أن نفتعل معارك لا مبرِّر لها داخل الإسلام، مع قيم لو تأملنا فيها، لوجدناها هي بضاعتنا التي ردَّت الينا". مثل هذا المنهج سهَّل على دعاة الأصالة تأسيس الحداثة في التراث، فالديموقراطية في عرفهم هي الشورى، وعقلانية الغرب هي عقلانية المعتزلة، وقيم المجتمع المدني ومقوماته وأعرافه هي من صميم الحضارة العربية الإسلامية. وإذا كان هذا حال الإحيائي الاسترجاعي العربي، فإن الإصلاحي التوفيقي العربي آمن بإمكانية الجمع بين زمنين حضاريين وإن متباعدين، الزمن التراثي والزمن الغربي، في رؤية أحادية تربط التاريخ كله بمرجعية واحدة من الماضي الى الحاضر الى المستقبل. ورأى الليبرالي العربي التاريخ مكتملاً ناجزاً في حضارة الغرب وقيمته السياسية والاجتماعية والفكرية، التي يجب الأخذ بها ما هي، ما حدا بسلامة موسى وطه حسين الى حث العرب على التعوّد بعادات الغربيين والتثقف بثقافتهم والتخلق بأخلاقهم. أما الأصولي العربي فلم يكن به حاجة الى التاريخ لأن الزمن لديه تجمَّد في لحظة واحدة، في حقبة محددة لم يخرج منها بعد ذلك. ثمة إشكال كبير إذن تترجمه هذه التوجهات المتناقضة لدى المثقفين العرب منذ بدء النهضة العربية الى الآن، أساسه التعامل مع التاريخ برؤية لا تاريخية، بفكر لاتاريخي يلغيه بالكامل. فالليبرالي العربي الذي يطرح علمانية الغرب بكل أبعادها وأحكامها من دون اعتبار واقع العرب الموضوعي والتاريخي ومدى تقبله لأطروحاته، والإصلاحي العربي الذي يحاول تفسير الماضي تفسيراً معاصراً مسقطاً مضامين حداثية ومعاصرة على مقولات تراثية مختلفة في الجوهر والتوجه والأهداف، والأصولي الذي يقرأ الحاضر بعقل الماضي. هؤلاء جميعاً تعاملوا مع أسئلة القرن العشرين، ويتعاملون مع أسئلة بدايات هذا القرن بفكر لا تاريخي يفسرها في أُطر ومعانٍ لا علاقة لها بها. هذا الإشكال في التعامل مع التاريخ برز بشكل ناتئ في لخطاب السياسي العربي في السنوات الأخيرة، إن في وجهه الديني الأصولي أو في وجهه الحداثي العلماني بصور وأشكال شتى. فإزاء الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 استُعيدت مقولة الجهاد التراثية لردّ العدوان، واستُعيدت معا الملابسات التاريخية اياها، تلك التي رافقت الدعوى الإسلامية في بداياتها. فالعدو هو ذاته، الكافر، اليهودي، المستهدف للدين، والصراع هو ذاته بين كفرة ومؤمنين. أما النصر في لمعركة فرهن بسند إلهي. وفي مثل هذا الخطاب ثمة الغاء للتاريخ الذي يفرض شكلاً للصراع والمواجهة غير تلك التي عرفتها بدايات الدعوة الإسلامي. على العكس طرح الحداثي العلماني على العقل العربي أطروحات تتعده وتقع بالنسبة اليه في نطاق اللامفكر فيه متوسِّلاً الغاء التاريخ، شأنه في ذلك شأن الأصولي الذي قلَّص التاريخ ال بُعد واحد توقف عنده. في مقابل هذا الإشكال في التعامل مع التاريخ نطرح على الخطاب السياسي العربي تحولاً جذرياً يطاول منطقة وايديولوجياته ويخرجه من فضاء اللاتاريخي الى فضاء التاريخ ليقرأ معطيات الواقع وأسلته وتبدلاته قراءة تاريخية تفكك أسره من مقولات الماضي وسطوته الإيديولوجية وتضعه وجهاً لوجه إزاء دينامية التغير ومستجدات التطور وانقلاباته. * كاتب لبناني.