المراقب للحركة الفكرية العربية منذ الثمانينات من القرن الماضي وحتى الآن يرى فيها ساحة سجال وصراع بين قيم وأفكار ورؤى متناقضة ومتباعدة في جذورها وتوجهاتها وتطلعاتها الى حد الإلغاء المتبادل، والنفي الذي يصل الى مستوى القطيعة والعدائية والعنف. لم تكن حصيلة كل تلك السنوات سوى شرخ ظل يتعمق بين الإيديولوجيات المتصارعة في كل الاتجاهات حتى وصل الفكر العربي الى حال من الضياع والتهافت والتباس المفاهيم والمقولات. وعلى رغم المحاولات التوفيقية والتلفيقية التي سعت الى التقريب ومد سبل للتلاقي بصوغ تصورات يمكن ان تجمع المتناقضات الإيديولوجية، ظل الشرخ يتزايد والفراق يتعمق والهوة تتسع. فالقومية والوطنية والدولة والأمة والهوية والتراث والأصالة والدين والحداثة والعقلانية والعلمانية والديموقراطية والمرأة والغرب ما برحت كلها اشكاليات سجالية وخلافية لا تتراجع عن الساحة الفكرية إلا لتحتدم وتستعر من جديد. ولعل ما جاء في"عالم الفكر"كانون الثاني/ يناير - آذار/ مارس 2005 يعبّر تعبيراً حياً عن استمرار هذا الإشكال الخلافي اذ رأى عاطف العراقي انه"واجب مقدّس إبراز اهمية ان تكون الديموقراطية نابعة منا نحن، وأن هذا الواجب يعد في مقدم واجباتنا الحيوية المهمة". ثم سأل:"اين الإيديولوجية العربية المشتركة، اين المشروع الثقافي والحضاري الذي يجب ان يعبّر عنه كل مثقفي الأمة العربية من مشرقها الى مغربها"ليجد اخيراً ان في تاريخنا الحضاري والثقافي صوراً لا حصر لها تعبر عن الديموقراطية ليس في السياسة فحسب بل في مجالات ثقافية وحضارية لا حصر لها. الحل اذاً في التاريخ كما يرى العراقي، في العودة الى الماضي لصوغ"دستور فكري ثقافي للأمة العربية في مجال الديموقراطية"يتفق المفكرون والمثقفون العرب على إرسائه من خلال الإعلام بجميع اشكاله. هذا الاحتكام الى التاريخ هو الإشكال المركزي الذي احكم الفكر العربي الحديث في القرنين الماضيين وما زال مستمراً وراهناً. فقد كان على الدوام في اساس الالتباس والصراع الإيديولوجيين العميقين والثابتين اللذين تنازعا هذا الفكر: هل نبدأ من الماضي وننطلق منه ام نتوجه نحو الغرب ونأخذ بحضارته وقيمه ونحتكم إليها؟ هل الحقيقة شيء أُنجز واستقر في الزمن ام هي ابداع واكتشاف دائمين يتكونان ويتطوران عبر الزمن يجب الإرهاص بهما والدأب من اجل التقاط التصورات والتحديات التي يطرحانها؟ هل هي قديم يجب التواصل معه وتكراره من جديد ام هي جديد يجب ابداعه واكتشافه والتعامل مع تحدياته والتطلع نحو الآفاق التي يكشفها؟ من هذه الزاوية بالذات جاء موقف الإصلاحيين الإسلاميين من النهضة العربية، من رفاعة الطهطاوي الى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، فوراء خطابهم الإحيائي تكمن رؤية للتاريخ تراه منجزاً في ماضٍ أُضفي عليه الكمال والقداسة، استعادته كفيلة بمجاوزة التخلف والفوات التاريخي، والنهوض من جديد. فالعلة كل العلة في الانحراف عن الأصل الكامل المنزّه القابع في الماضي، والنهضة ما هي إلا التواصل مع هذا الأصل وتكراره. وهكذا فالتقدم الذي حققه الغرب ما هو إلا"بضاعتنا"التي يجب ان نستردها لنعاود انطلاقنا ونهوضنا. في المقابل انطلق الليبراليون من تصور مشدود الى التطور والتقدم والمستقبل يرى التاريخ ناجزاً في الغرب وقيمه الحضارية والفكرية والسياسية والاجتماعية، ما حدا بسلامة موسى وطه حسين الى حث المصريين على العيش مثل الغربيين والتثقف بثقافتهم وتعوّد عاداتهم والتخلّق بأخلاقهم. وهكذا ينكشف واضحاً الخلاف على التاريخ بين رؤية تكافح لاستعادة الماضي، الأصل الناجز الثابت المقدس، وأخرى تجهد للحاق بالغرب باعتباره النموذج النهائي واقتباس افكاره وقيمه وحضارته، وبالتالي، التماهي معه. وفي الحالتين يلغى مفهوم التاريخ الحقيقي بما هو تحول وإبداع وتطور وكشف للجديد، ويصبح على النقيض من ذلك تكراراً ابدياً تتبدل فيه الأدوار حيث الآخر هو الأنا في الماضي والأنا اليوم هو الآخر سابقاً. في هذا السياق ايضاً، يقع إشكال الهوية الذي شغل حيزاً واسعاً من الفكر الإيديولوجي العربي منذ الثمانينات، فالهوية في تصور دعاة الأصالة والتشبث بالذات هي من الثوابت التي لا يطاولها تفكك او انحلال او تغيير. انها كما يرى محمد عمارة"القدر الثابت، والجوهري، والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميّز حضارة الأمة العربية عن غيرها من الحضارات والتي تجعل للشخصية الوطنية او القومية طابعاً تتميز به عن الشخصيات الوطنية والقومية الأخرى". انها اذاً معطى فوق التاريخ الحقيقي، تاريخ الصراع والتفاعل والتطور والتبدل والتغير والانقلاب. فكيف تكون الهوية العربية ثابتاً جوهرياً بينما كل شيء تبدل ويتبدل بسرعة قياسية؟! هل الشخصية الحضارية العربية التي يُعلن الحرص عليها والتمسك بها هي ذاتها القابعة في الزمن الماضي المتخيّل ثابتاً ومعصوماً ومقدّساً؟ هل هي ذاتها التي يعيشها العربي اليوم؟ أليست المسافة التاريخية بيننا وبينها أكثر عمقاً وبعداً واتساعاً مما هي بيننا وبين حضارة الغرب بكل مظاهرها ووجوهها وأبعادها؟ فإذا كانت الثقافة هي السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية وطرائق الحياة ونظم القيم والتفكير والمعتقدات التي تميز الأمة وتحدد هويتها ماذا يبقى من الهوية العربية التي يحرص دعاة الأصالة على فرادتها وتميزها وخصوصيتها، فيما العرب يعتمدون في اكثر من 75 في المئة من مصادر حياتهم وبقائهم وتقدمهم على الغرب، وفيما الشركات الإعلامية العالمية العملاقة التي تسعى في تكييف الأذواق والسلوك والتفكير تكاد تغطي الساحة الإعلامية العربية بالكامل، وفيما يقع العالم العربي في مؤخر الدول المنتجة للعلم والتقدم في عالم اليوم فيدخل العرب القرن الواحد والعشرين بپ70 مليون امي و100 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر. من هنا نطرح رؤية دينامية للتاريخ والهوية باعتبارهما قيد التكون والتحول والتشكل على الدوام من خلال الإبداع والإسهام والمشاركة في التحولات الاقتصادية والسياسية والعلمية والتقنية الجارية في عالمنا الراهن، لأن بقاءنا اسرى الرؤية الستاتيكية اليقينية للماضي وللغرب على السواء يضع هويتنا على المحك ويقصينا اكثر فأكثر الى هامش هذا العالم الذي لا ينفك يتحدانا كل يوم بما يطرحه من مفاجآت ومستجدات ليست في الحسبان. كاتب لبناني.