في أجواء تذكر بنهاية العام 2000، وصلت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الى المرحلة الحرجة التي يتعين فيها على صانع القرار الاختيار بين بدائل كلها مر. في 2000/2001 اختار الطرفان ترك المفاوضات تنهار تحت وطأة الصعوبات التي واجهتهما، واليوم تهدد صعوبات مشابهة مستقبل القدس وقضية اللاجئين وتفكك الائتلاف الحاكم في اسرائيل المفاوضات بين الطرفين بأن تواجه المصير نفسه. ولكن الذي حدث بعد انهيار المفاوضات عام 2000 هو سبع سنوات من القتل، وتدمير شبه كلي لمؤسسات السلطة الفلسطينية، وفرض نظام إغلاق قاس على سكان الضفة الغربية، مع الاستمرار في بناء المستوطنات، وبناء الجدار الفاصل، وتقليص الوجود الفلسطيني في القدس، واقتتال ثم انقسام فلسطيني داخلي. وبعد كل ذلك، وإدراكاً من الجانبين لعدم وجود حل عسكري للصراع بينهما، عادا إلى المفاوضات مرة أخرى، ووصلا تقريباً الى النقطة نفسها التي كانا عندها في نهاية 2000. وكي لا نكرر هذا المسعى العقيم، يتعين علينا الآن ألا نكتفي برفض ما يطرحه الجانب الإسرائيلي، بل أن نتحلى بالقوة والجرأة ونتمسك بحل الدولتين ونطرح على العالم رؤية تحافظ على مكتسبات التفاوض وعلى الحق الفلسطيني فيما لا يتم الاتفاق عليه، ونطرح هذا التصور على المجتمع الدولي وإسرائيل، ونستخدم ما أوتينا من أدوات ورصيد سياسي كي ندعم هذا التصور وندفع لتطبيقه الآن وليس في مستقبل افتراضي غير منظور تكون فيه الأوضاع على الأرض قد تدهورت بشكل يجعل حل الدولتين خيالاً ويدفع الفلسطينيين والإسرائيليين الى زاوية لا مخرج منها. من المؤكد أن التوصل الى اتفاق سلام شامل هو البديل المفضل فلسطينياً وعربياً ودولياً، ولكن ماذا لو كان من غير الممكن التوصل الى اتفاق على وضع مدينة القدس مع الائتلاف الحكومي الحالي في إسرائيل - سواء نجحت تسيبي ليفني في تشكيل حكومة جديدة أو ذهبت إسرائيل الى انتخابات عامة بما يعني بقاء أولمرت رئيساً للوزراء لمدة خمسة أشهر أخرى؟ وما هي البدائل المتاحة أمام القيادة الفلسطينية في هذه الحالة؟ البديل الأول، والأكثر عبثية، هو رفض الاتفاق على أي شيء ما لم يتم الاتفاق على كل شيء، وبالتالي عدم التوصل الى اتفاق مع الائتلاف الحاكم في اسرائيل وانتظار ما سيسفر عنه تفكك هذا الائتلاف من تداعيات، بما في ذلك الدعوة الى انتخابات عامة مبكرة تسفر عن فوز ائتلاف اليمين، ويشكل بنيامين نتنياهو الحكومة القادمة، بما يعنيه ذلك من وقف كامل لجهود التسوية. وحتى إذا حاولت الإدارة الأميركية القادمة دفع جهود السلام، فإن نتنياهو كفيل بإهدار السنوات الأربع القادمة في مماحكات مع الولاياتالمتحدة مثلما فعل مع كلينتون في الفترة من 1996-1999، في حين يستمر في توسيع المستوطنات وتقليص الطابع العربي للقدس. وإذا عدنا - في أفضل التقديرات - الى صيغة تفاوضية ما في نهاية هذه السنوات، تكون الوقائع على الأرض قد تغيرت في اتجاه يجعل حل الدولتين أكثر صعوبة مما هو الآن. البديل الثاني المطروح أمام القيادة الفلسطينية هو التخلي عن حل الدولتين والدعوة الى إقامة دولة واحدة ديموقراطية علمانية تضم الفلسطينيين والإسرائيليين. وليس هنا محل مناقشة جدوى هذا البديل بالتفصيل، ولكن من المؤكد أن طرحه من دون تمعن في تداعياته باعتبار أنه يخيف الإسرائيليين إنما يشكل نوعاً من الاستهتار بمستقبل الشعب الفلسطيني. فعلى من يطرح حل الدولة الواحدة ظناً منه أنه سيمكن الفلسطينيين - مسلمين ومسيحيين - من العودة الى يافا وطبرية وحيفا، أن يأخذ في اعتباره أن ذلك الطرح يعني أيضاً إعطاء اليهود الإسرائيليين الحق في استيطان رام الله ونابلس والخليل. مثل هذا التعايش السلمي قد يشكل نموذجاً نظرياً، لكنه يتحول الى كابوس واقعياً حين يتم بين دولة محتلة قوية تضم مجموعات استيطانية متطرفة وقوية وبين شعب خاضع للاحتلال منذ عقود طويلة. تحقيق النموذج المثالي للتعايش يتطلب مصالحة سياسية واجتماعية بين دولتين وشعبين على مقدار مقارب من الثقة بالنفس والشعور بالقوة - أي يحتاج الى قيام دولة فلسطينية مستقلة تقرر بعد ذلك إن أرادت شكل وشروط مثل هذه المصالحة التاريخية. أما دفع الفلسطينيين الى ذلك البديل قسراً فيشكل واقعياً تخلياً عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه وإقامة دولته المستقلة. كما أنه من السذاجة تصور قبول إسرائيل بحل يتنافى مع الفكرة التي تقوم عليها كدولة. بل على العكس، من شأن هذا الطرح أن يغذي المخاوف العميقة لدى الإسرائيليين ويدفعهم اكثر الى التشدد والانغلاق. وحتى لو وجد طرف على استعداد لفرض هذا"الحل"على إسرائيل، فإنه سيواجه بمقاومة شرسة من جانب الإسرائيليين جميعاً ولو وجد هذا الطرف لكان من الأحرى أن يفرض على اسرائيل انسحاباً الى حدود 1967 هو أبسط بكثير من تخليها عن هويتها كدولة. إن طرح الدولة الواحدة يعني - عملياً - إضاعة سنوات عديدة قادمة ودفع الجانبين الى صراع قد لا ينتهي. وفي كلا الحالين، سيؤدي الانتظار الطويل لتسوية سلمية لا تأتي إلى تفاقم المشكلات السياسية والمالية العديدة التي ترزح تحتها السلطة الفلسطينية حتى تتهاوى، مخلية المجال لصعود القوة السياسية الوحيدة المتماسكة على الساحة الفلسطينية: حركة"حماس". وسواء توجه الجانب الفلسطيني في أثناء ذلك الى المقاومة المسلحة أو إلى التهدئة، فإن النتيجة العملية فيما يتعلق بالعلاقة الفلسطينية الإسرائيلية هو التوصل الى شكل من أشكال التعايش السلبي بينهما، يجمع بين فكرتي الانسحاب الإسرائيلي الاحادي الجانب من أجزاء من الضفة الغربية والهدنة الطويلة الأمد التي تقترحها"حماس". ليس في أي من هذه البدائل ما يثير البهجة، أو ما يحفظ الحقوق الفلسطينية. ومن الممكن تفادي هذه السيناريوهات إذا ابتعدنا عن الاستسلام لفشل التفاوض وكأنه قدر. وبدلاً من ترك المفاوضات تنهار مثلما حدث في العام 2000، يمكن للقيادة الفلسطينية القيام بمبادرة تعكس اقتناعاً واضحاً وقاطعاً بأهمية حل الدولتين للشعب الفلسطيني ومستقبله، وتقوم على مبدأ أن"ما لا يدرك كله لا يترك جله"من دون تنازلات تضر بالحقوق الفلسطينية أو بالقدرة على استعادتها في المستقبل. لقد تجاوز العالم العربي حذره التقليدي وأخذ زمام المبادرة، إبتداء من مسعاه الإيجابي في مجلس الأمن في خريف 2006، مروراً بالتأكيد على المبادرة العربية في قمة الرياض في آذار مارس 2007، وانتهاءً باقتراح استئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية بمشاركة عربية والذي عرضه وزراء الخارجية العرب على الرباعية الدولية في ايار مايو 2007، وهي المبادرات التي حفزت العالم كله على العودة الى منطق إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بعد سنوات من اختزال القضية الفلسطينية الى أحد بنود"الحرب ضد الارهاب". وتستطيع القيادة الفلسطينية الآن أن تقوم بمسعى مماثل، وتطرح مبادرة للسلام تتضمن طرحاً يحصل المكاسب الفلسطينية في قضيتي الدولة وحدودها، ويحفظ الحقوق الفلسطينية في قضيتي القدس واللاجئين من دون أن يجعل منهما عائقاً أمام الحصول على هذه المكاسب. فبالنسبة الى القدس، فإن المصلحة الفلسطينية الأولى هي حماية الحقوق الفلسطينية في المدينة من التآكل تحت وطأة الإجراءات الإسرائيلية والحيلولة دون طمس طابعها العربي. ومن ثم، فإذا تعذر الاتفاق على مستقبل القدس خلال الشهور القليلة المتبقية لعملية التفاوض، فإن الحل لا يكون برفض الاتفاق على بقية القضايا فهذا أمر لن يحفظ في القدس حقاً وإنما في الضغط في سبيل إنشاء آلية دولية تتحقق من التزام إسرائيل بعدم إدخال تغييرات على الأرض الى حين اتمام الاتفاق على مصير القدس، بما في ذلك وقف الاستيطان فيها واحترام حق الفلسطينيين في دخول المدينة وضمان حرية الوصول الى الأماكن المقدسة وحماية حقوق أبناء القدس في البناء والإقامة وغيرها، بما يضمن الحيلولة دون استخدام أي تأجيل للمفاوضات في طمس الطابع العربي للقدس. إن مبادرة فلسطينية تتضمن هذه العناصر، وضغطاً عربياً مسانداً لها، هو في رأينا السبيل الأمثل الذي يساعد على حماية القدس ويدفع قادة إسرائيل الى البحث عن حل تفاوضي بشأنها. وفي ما يتعلق باللاجئين، فإن المبادرة الفلسطينية يمكن أن تتضمن استعداد الدولة الفلسطينية للبدء فوراً في مساعدة من يرغب من اللاجئين في الاستقرار في أراضي الدولة الفلسطينية أو الانتقال الى دولة ثالثة، وبدء العمل في الإجراءات التي تقتضيها عمليات التعويض، على ألا يتم الاتفاق على مسألة حق العودة حتى يتم الاتفاق على مستقبل القدس، بحيث تظل القضيتان مرتبطتين في التفاوض. وبالطبع، فليس هناك ما يضمن قبول إسرائيل لهذه الشروط، ولكن مبادرة فلسطينية كهذه ستقضي على طروحات تأجيل التفاوض حول القدس واللاجئين من دون توفير ضمانات وهو ما يحاول البعض في إسرائيل والإدارة الأميركية التسويق له بمساعدة بعض الأوروبيين، وستطرح على العالم رؤية عاقلة واقعية متوازنة تبدي انفتاحاً وتحفظ الحق الفلسطيني في آن واحد، بما يصعب دحضه أو استبعاده من قبل الأطراف ذات التأثير، بما في ذلك داخل الولاياتالمتحدة بل إسرائيل نفسها. من ناحية أخرى، لا تفرط مثل هذه الاقتراحات في أي من الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني أو في قدرته على مواصلة المطالبة بها، مع تمكينه من إمساك الفرصة المتاحة وتحصيل جزء مهم من هذه الحقوق يتمثل في تحرير الأرض وتحقيق الاستقلال. * اكاديمي مصري ** اكاديمي فلسطيني ومستشار سابق لمنظمة التحرير