تعددت المصطلحات العلمية لوصف طبيعة نظم الحكم العربية وأنماطها وتوجهاتها ولكنها لسوء الحظ لم تكن كافية ولا وافية. نذكر منها الحديث عن الدولة القومية والدولة القطرية والدولة الرعوية والدولة الوطنية والدولة المدنية والدولة الدينية والدولة الديموقراطية والدولة التسلطية والدولة الريعية والدولة الأرستقراطية وأخيراً الدولة الفاشلة، ولكن أيا من هذه المسميات لا يعطي صورة واضحة عن طبيعة الدولة وحكامها ووظائفها. ولذا قد يكون من المفيد أن نخوض هذه المخاطرة العلمية بفرز وتصنيف نظم الحكم العربية على أساس جديد يقوم على نمط الحاكم الافتراضي الرئيسي بحكم تكوينه ووظيفته ودوره في إدارة شؤون الدولة والمجتمع وإصدار الأوامر وصنع القرار وتخصيص الموارد ورسم السياسات العامة أي بمدي تعبيره عن المثل الأعلى والثقافة الشخصية لنظام الحاكم وتقمصه لدور صاحب السلطة بصرف النظر عن مهنته الأصيلة. فقد يكون عسكرياً ولكنه يمارس دور الواعظ أو دور الأمير وهكذا دواليك... ولذا سنطرح ثلاثة نماذج افتراضية Virtual محاولين استخلاص أهم سماتها ودرجة انطباقها على نظم الحكم العربية الحالية، ولعل هذه النمذجة تساعدنا في فهم وتحليل وتشخيص الحالة الراهنة في المتاهة العربية ومعرفة جذورها التاريخية ومسالكها ودروبها المستقبلية، إذ إن أهل مكة هم أدرى بشعابها. وهذه النظم الافتراضية لا تنطبق تماماً على واحد أو أكثر من النظم السياسية القائمة بقدر ما تجسد في أذهاننا درجة قابليتها للحياة الديموقراطية وجدواها السياسية في تحقيق الأمن والتنمية والعدالة والرخاء، وذلك بحكم ما يمكن اعتباره المزاج النفسي العام Mode الذي يحفز السلوك المجتمعي والممارسات القيادية. وتشمل هذه النماذج: دولة الأمير، ودولة الواعظ، ودولة التاجر، وننوه بأنه ليس من الضرورة أن يكون هذا النمط نقياً خالصاً في كل نموذج، أو مستمداً من عنوان الدولة، ملكية كانت أو جمهورية، إنما هو وصف للطابع العام لتلك الدولة من حيث ثلاثة أبعاد: وضع النظام"الحاكم"وثقافته العامة من حيث إدراكه لنفسه ولدوره وللعالم من حوله. نبدأ بدولة الأمير والتي ترجع جذورها إلى التاريخ القديم والقريب، إذ عرفنا الأمير ولي العهد وأمير المؤمنين والأمير الوزير ورئيس الوزراء، وتستمد خصائصها من سلطات الأمير المطلقة في إدارة شؤون المجتمع السياسية بما في ذلك الحماية والأمن للرعايا مقابل تخصيص الموارد النادرة وتوزيع الهبات والمنح على الخاصة والعامة من الناس. والخطاب السياسي موجه إلى الرعايا ويراهن على تراكم القوة والسلطة لديه. أما النموذج الافتراضي الثاني فهو دولة الواعظ أي الرجل الذي يتسربل بلباس رجال الدين مستمداً شرعيته من القوة المذهبية المعنوية والروحية التي تبثها الأديان والعقائد في روع الناس حول المقدس والإلهي وهو يتوجه بخطابه السياسي إلى جمهور المؤمنين وطائفة المتدينين ويراهن على العدل عبر عنصر الزمن من الماضي والحاضر والمستقبل. يبقى النموذج الافتراضي الثالث ونعنى به دولة التاجر التي هي بمثابة جنين دولة الطبقة الوسطى وتقوم السلطة فيها على شكل هرمي تتحكم في قمته مصالح كبار التجار والمستثمرين الذي نعرفهم اليوم باسم طبقة رجال الأعمال، وأهم سماتها أن السياسات الاقتصادية هي التي توجه مصالح ونشاط الدولة مع الحرص على روابطها بالاقتصاد العالمي ويتوجه الخطاب السياسي إلى المواطنين ويراهن على الثروة وحرية الأسواق والأعمال. قد يقول قائل: أين العسكر وأين الموظفون البيروقراطيون وأين المثقفون؟ نرد فنقول إن العسكر- في كل الأزمنة والأمكنة - هم جزء من دولة الأمير، يسهرون على الحراسة والأمن ويرتدون الزي الأميري ويوفرون للناس الخدمات الأميرية الحكومية الضرورية لهم. أما عن البيروقراطيين موظفي المكاتب فإنهم يخدمون دولة التاجر بدأب وإصرار طالما أن الحكام يوفرون لهم نصيباً لا بأس به من الدخل والرفاهية القومية. أما عن المثقفين فلم تكن لهم دولة قط إنما هم موزعون دائماً بين الدول الثلاث هم: شعراء الأمير، ودعاة الواعظ، وصحافيو التاجر يعاونونهم في حل النزاعات الداخلية وتخصيص الموارد وإدارة الشؤون الخارجية وتوجيه الخطاب السياسي والوعي العام داخلياً وخارجياً لتأمين الشرعية للطبقة الحاكمة. ولا توجد دولة تتبلور فيها كل الصفات النقية لأحد هذه النماذج، ولكن يغلب على طابع الدولة العديد من هذه الصفات. ومن خلال مقارنتنا هذه النماذج من حيث القدرات الأربع للدولة العصرية، ونعني بها القدرة التنظيمية على الضبط الاجتماعي، والقدرة الاستخراجية للموارد والطاقات، والقدرة التوزيعية العادلة على جميع الطبقات والمناطق، والقدرة الرمزية المرتكزة على الحشد والتعبئة الشعبوية، فإننا نجد تفوقاً ملحوظاً لدولة الأمير في القدرة التنظيمية، في حين ترتفع طاقة دولة الواعظ في مجال القدرة الرمزية. أما دولة التاجر فمميزاتها تظهر في القدرة الاستخراجية. وجدير بالذكر أن هذا التصنيف إنما هو فرضية عامة مستخلصة من طبيعة ومسار النظم السياسية شكلاً وموضوعاً وممارستها العملية على الساحتين الداخلية والخارجية. وخلاصة القول إن الحل العاجل والآجل هو استزراع ثقافة الدولة المدنية التى ترتكز إلى حقوق الإنسان وخطابها موجه إلى المجتمع المدني ورهانها على الديموقراطية. * كاتب مصري.