"عودة الحرب"، أو تجددها وانبعاثها، وهم لا تحققه الوقائع. فعدد النزاعات المسلحة يتناقص بإطراد منذ 1989. فبلغ يومها، نحو الثلاثين، ويبلغ نصف العدد، الآن. وقد تكون نهاية الحرب الباردة السبب في هذه الحال، الى تقدم الديموقراطية واستقلال عدد من الدول في الأثناء. ومعظم النزاعات غداة الحرب الباردة، داخلية وخسائرها الفادحة تصيب المدنيين، ويستعمل المقاتلون المجاعة والاغتصاب سلاحاً، ويجندون الأطفال، خصوصاً في أفريقيا. وسبق الكلام على"عودة الحرب"في 1990، حين اندلعت الحروب في يوغوسلافيا، وفي 1991 في صدد الكويت، وفي 1999 في كوسوفو... وتواتر العبارة مصدره حسبان الأوروبيين انهم دخلوا عصر ما بعد الحداثة. وهذا صحيح داخل الاتحاد الأوروبي، ولا يتفق مع حال معظم أقاليم الكرة الأرضية. وبعض النزاعات تمتاز عن غيرها بقوة أصدائها وآثارها الدولية. وهذه حال التدخل الروسي في جورجيا، وهو عملية عسكرية ثانوية تترتب عليها نتائج استراتيجية كبيرة. ولا ينفي ما تقدم للتو أن تتجدد النزاعات العسكرية بين الدول، لا سيما في الشرق الأوسط وآسيا. فالأهواء القومية تنفخ من جديد، والترابط الاقتصادي لم يؤدِ الى تفادي الحرب في ما مضى وينبغي الانتباه الى تعاظم النفقات العسكرية منذ نهاية التسعينات المنصرمة، وعلى وجه الخصوص منذ 11 أيلول سبتمبر، فالولاياتالمتحدة تنفق وحدها مقدار إنفاق باقي العالم. وفيما يعود الى الاستراتيجية العسكرية وأطوارها، ثمة سبع صور أو أشكال لتحولاتها: 1 - تقليص القوات لقاء تحسين فاعليتها العملانية عن بعد، وخصخصة تخصيص أنشطة كثيرة، ولكن الجيوش الكبيرة التي تجند شباناً وشابات يؤدون خدمة عسكرية إلزامية هي الغالبة. 2 - طفرة تكنولوجية في الاتصالات والصورة، مع ما يترتب على هذا من سرعة عمليات وتصويب دقيق أو توسل بطائرات من غير طيار. ولا يدعو هذا الى الكلام الأبله على حرب جراحية. فضحايا الآثار الجانبية للعمليات جزء من الحرب لا يتجزأ، وإغفالهم ليس جائزاً. 3 - تقنين قواعد الحرب على نحو مطرد، وإيلاء الوجه الحقوقي مكانة أعلى، وتكثير المحظورات من أسلحة كيماوية وعبوات ضد الأفراد وقنابل عنقودية، الخ. 4 - ظهور مقاتلين منظمين ليسوا جيش دولة، وأمثال هذا"حزب الله"، وقتاله الجيش الإسرائيلي ومباغتته إياه في 2006. وأوقعت الحال هذه الدول الغربية في حرج، فهي حاولت تفادي الخسائر في صفوف المدنيين بينما أراد"حزب الله"وقوع ضحايا مدنيين استثمرهم خير استثمار في الإعلام. وعلى نحو آخر، يتعاظم دور الشركات العسكرية الخاصة. 5 - انتداب قوات حفظ سلام أثقل من سابقاتها لأداء مهمات أكثر تعقيداً، وتقتضي من الجنود الانتقال من دور الى دور، من القتال الملتحم الى المواكبة والرعاية الانسانيتين. 6 - انتشار الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى، والصواريخ الطويلة المدى، واستتباع الأمر الحاجة الى دفاع يحصن من الأنظمة هذه. 7 - ظهور الفضاء الخارجي للأرض والفضاء الرقمي ميدانين جديدين من ميادين الحرب، الى البر والبحر والجو. والى اليوم، لا تزال واشنطن القوة المسيطرة على الفضاءات المشتركة، على نحو ما سيطرت لندن على البحار في القرن التاسع عشر. ولكن روسياوالصين تستثمران استثمارات كبيرة في الميادين هذه. والشاهد هو مهاجمة الروس الأنظمة الاستونية، في 2007، وتدمير الصينيين قمراً اصطناعياً. 7 - ما لم يتغير وهو الحاجة الى احتلال الموقع والسيطرة عليه، والاحتماء به من الأخطار المحتملة، والاضطرار غالباً الى إعمال تجهيزات ثقيلة، والى البقاء الوقت الطويل الذي تحتاجه الحماية المنشودة. فبعض الحروب ليس البر حلقتها الأولى ولكنه خاتمتها لا محالة وفصلها الأخير. والانتشار النووي ليس همَّ كل الدول الأول، فهو ليس هاجس الصين ولا الهند ولا حتى روسيا. وشاغل الولاياتالمتحدة هو تواطؤ الإرهاب والانتشار النووي وتلاقيهما. فهي تحمل الانتشار النووي على محمل الجد، خلافاً للأوروبيين. ولكن ما يتصدر اهتمام معظم المسؤولين الأميركيين هو طبيعة النظام السياسي. وبعبارة أخرى، لو كانت إيران ديموقراطية ليبرالية لما أثار برنامجها النووي القلق الذي يثيره برنامج آيات الله. وهم المسؤولون الأميركيون على خطأ. فمدار الأزمة الإيرانية ليس على استقرار الشرق الأوسط وحسب بل مستقبل معاهدة حظر الانتشار. فإذا انهارت المعاهدة، فلن تتأخر اليابان عن صناعة القنبلة الذرية، ويبلغ عدد الدول النووية في 2025 ضعفي عدد الدول الثماني أو التسع الحالي. والتعويل على فضيلة الذرة، وحملها على الاستقرار، والحال هذه، مغامرة. وعلى الرئيس الأميركي القادم التصدي لمعالجة المسائل العسكرية التالية: العراق وايران وأفغانستان، على هذا الترتيب، ولكن الترتيب قد يتغير، فروسيا لم تكن مدعوة الى المائدة، وهي دعت نفسها. والمفاجأة الاستراتيجية هي السنة والقاعدة. ولا شك في اختلاف المرشحين على معالجة مشكلات مثل العراقوروسيا، أو مثل التجارة العالمية والبيئة، وإيران أخيراً. ولكنني لا أعتقد أن أوباما قد يجري حواراً مباشراً مع طهران. ولن يعني انتصار أوباما سياسة خارجية أميركية جديدة. فعوامل الاستمرار والدوام في السياسة الأميركية، وهي الأحادية والاستباق والهيمنة، تكاد تكون ثابتة منذ نشوء الجمهورية. ولن تنقلب الموازين العسكرية في الأعوام العشرة الآتية، حين يصبح في مستطاع بكين ونيودلهي الاضطلاع بعمليات عسكرية طويلة في ميدان بعيد من حدودهما. ولعل هذا من موضوعات المناقشة البارزة في مطلع القرن الواحد والعشرين: هل تكون آسيا في 2014 هي أوروبا في 1914؟ وربما ينبغي تكرار القول ان الترابط والتكامل الاقتصاديين لا يؤديان الى تفادي الحرب، والراجح في التوقع والحساب هو ان ثلاثة بلدان آسيوية هي الصين وباكستان وكوريا الشمالية قد تجتاز العتبة النووية في حال نزاع. ولا تزال تايوان وكشمير وشبه الجزيرة الكورية مكامن الخطر في العالم. فأي حرب محتملة في آسيا تتردد أصداؤها في العالم كله. عن برونو تيرتريه مدير أبحاث في مؤسسة البحث الاستراتيجي، "لونوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية، 18-24/9/2008