بدأ الاهتمام بالطفل، والقوانين التي تحميه، يأخذ طابعاً جدياً بعد توقيع سورية، عام 1989، على "الاتفاقية العالمية لحقوق الطفل". وتقضي المادة الرابعة منها بأن تتخذ الدول الأطراف"كل التدابير التشريعية والإدارية وغيرها من التدابير الملائمة، لإعمال الحقوق المعترف بها في هذه الاتفاقية، وفي ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تتخذ الدول الأطراف هذه التدابير إلى أقصى حدود مواردها المتاحة". وعرفت سورية في السابق مجموعة من النصوص التي تنظم حقوق الطفل وواجباته، ولكنها كانت نصوصاً مبعثرة في كل من قانون الأحوال الشخصية والقانون المدني ونظيره التجاري، وقانون العقوبات. وعليه، عمدت الحكومة السورية إلى البدء بتسوية وضعها القانوني الداخلي، فشكلت بإشراف الهيئة السورية لشؤون الأسرة لجنة من المحاميين عملت على وضع مسودة ما سميّ ب" مشروع قانون حقوق الطفل السوري"، تتناسب وبنود الاتفاقية العالمية، بما يضمن صون كرامة الطفل وإنسانيته. ثمّ أحالت الهيئة مشروع القانون إلى لجنة قراءة من كبار أساتذة القانون في سورية، لمراجعته وتنسيق مواده. فأضافت اللجنة مواد تلزم الأب ليس بالنفقة فقط فحسب، وإنما بتأمين سكن مناسب للمحضون طيلة مدة الحضانة. وعدلت المادة 3 من قانون الجنسية، ليُصبح من حق الطفل المولود من أم أو أب سوري أن يحمل الجنسية السورية. هذا بعض المواد الذي يعاني من العقم النظري، ولا يزال موضع سجال، في حين يجهل كثيرون في سورية، باستثناء المعنيين وقلة من المهتمين، بأمر هذه الاتفاقية وما يترتب عليها، وحتى بأمر مشروع القانون. والسبب أن المشروع عرف إشكالات بيروقراطية تعود إلى طبيعة سير الأمور الروتينية من جهة، وارتباط بعض بنوده بمجموعة من النصوص الناظمة في التشريعات المختلفة كالعقوبات والأحوال الشخصية من جهة أخرى. وبتعبير أدق، اصطدمت الحداثة القانونية التي تحملها التشريعات الاجتماعية الجديدة، كما وردت في المشروع بالأيديولوجيا الاجتماعية السائدة، وتجلياتها التشريعية المستمدة من المعتقدات الدينية بارتسامها في الثقافة الشعبية للمجتمع السوري. هذا الدور الذي يتوجب على الإعلام السوري توليه، شأن المساهمة في نشر ثقافة جديدة تحض على التوعية بالحماية القانونية، وفق مشروع القانون للطفل حتى بلوغه سن الثامنة عشرة. وعلى سبيل المثال، البند المتعلق برفع سن"أهلية الفتاة للزواج"، والبند الآخر المتعلق"بمنح الفتاة حق الولاية في إبرام عقد زواجها"، بمعنى أنّ يصبح لها الحق في تزويج نفسها بنفسها باعتبارها بالغة عاقلة راشدة، يقتضيان تعديلات على قانون الأحوال الشخصية، في ما يخص هذا الشأن. وتضمن المشروع فصلاً كاملاً يُعنى بالأمان الشخصي للطفل، وفيه تشديد العقوبات، في جرائم التسيّب والإغواء والتحرّش والاغتصاب والاختطاف وسفاح القربى، والاتجار بالأعضاء والاتجار بالأطفال بهدف الدعارة، بما يقتضي التعديلات في قانون العقوبات حول هذه البنود. هذا الفصل الأخير، بما فيه من قضايا حساسة تمس الأخلاق العامة، يفتح باب التساؤل حول الإشكال الأعمق الذي يعانيه المشروع. فرفع سقف العقوبات لمجرمي سفاح القربى أو التحرّش الجنسي، ليس بالخطوة الحضارية فحسب، وإنما بالضرورية. ولكن الأزمة هي في أن يتجرأ المجتمع ويفسح المجال لحرية البوح، أمام من يعاني مثل هذه الأزمات. ذلك أن"ستر الفضيحة"، أو"عدم نشر الغسيل الوسخ أمام الآخرين"لا يزال هو الشعار الأقوى، خصوصاً أن أفعالاً كهذه يرتكبها عادة المقربون من الطفل. وتحمل الفضيحة مستويين، الأول شرف الفتاة وطهارتها، والثاني شرف العائلة. وهذا من دون التطرق للإساءات التي قد يتعرّض لها الذكور من الأطفال. وعليه، يمكن القول إن السؤال الجوهري الذي يطرحه مشروع القانون، يكمن في مضامينه النظرية ويتبلور في مواجهة الواقع البعيد كل البعد عن التشريع الاجتماعي، من الناحيتين الفنية والأخلاقية. فالواقع السوري يعكس"بلداً لم يصل إلى التكامل الاجتماعي بصورته المطلوبة، ويحبو على الصعيد العملي"، كما يرى الدكتور فاروق الباشا أحد أعضاء لجنة قراءة المشروع، وهو أستاذ سابق لمادة التشريعات الاجتماعية في جامعة دمشق. والجدير ذكره أن تحقيق التشريع الاجتماعي بصورته المُثلى أمر مُكلف جداً. على سبيل المثال، عرفت سورية، عبر وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، إقرار ضرورة وجود حضانة في كل دائرة عمل تضم أكثر من خمسين امرأة عاملة. ولكن الواقع في الدوائر الحكومية يكشف عن تطبيق ضعيف جداً وناقص، والشروط لهذا القرار مثار الجدال. إلى جانب الضعف للمواد القانونية النظرية، لا يزال الفهم العملي لجوهر الوظيفة الاجتماعية غائباً عن الثقافة الشعبية، وقد عيّن مرشدون اجتماعيون ونفسيون في المدارس، من دون أن يعرف الطلاب أي معنى ملموس لوجودهم! ويقول الباشا:"نحن بأمس الحاجة إلى كوادر مؤهلة ومدربة على التعامل مع الأطفال، الأنثى منهم كما الذكر". وتؤكد المحامية منى اسعد أن على رغم ما يحمله المشروع من صون لحقوق الطفل واحترام إنسانيته، يبقى وجود النص المكتوب، وإن كان على درجة عالية من الدقة والتطوّر والأهمية، غير كافٍ لتحقيق حياة كريمة ومصانة للطفل. ولا بُد من تلاحم الأسرة والمجتمع والدولة للتوعية بأهميّة كرامة الطفل. وهو أمر يحتاج إلى عمل طويل وشاق خاصة في مجتمع نامٍ كسورية". وهذا أحد أبعاد الهوة التي تفصل بين النيّة الطيبة الظاهرة في طبيعة المواد النظرية، وبين الخطوات الفعلية نحو التطبيق. ويبقى هذا التحدّي قائماً في انتظار دوران عجلة البيروقراطية، وإقرار المشروع بعد رفعه إلى رئاسة مجلس الوزراء ومن ثم إلى مجلس الشعب. مضت قرابة السنتين من العمل حتى الآن على مشروع القانون ومراجعته وفق المرئيات الفنية والحقوقية، لكن الأمل في صدوره، كقانون يحمي الطفل السوري وينظم حقوقه، ما زال بعيداً من التحقق.