تؤكد مبادرة "مصدر" التي أطلقتها حكومة أبو ظبي بالاعلان عن استثمارات بلغ مجموعها 15 بليون دولار خلال اليوم الأول لپ"قمة طاقة المستقبل"التي استضافتها الامارة في 21 و23 كانون الثاني يناير الجاري، أن الجانب العلمي لهذه المبادرة لا يقل أهمية عن جانبها العملي. ومنذ الاعلان عن تلك المبادرة الكبرى قبل عامين، عملت الحكومة على استقطاب الشركات والكفاءات العلمية في ميدان الطاقة النظيفة للانطلاق سعياً منها إلى تحقيق خططها الطموحة الرامية إلى جعل إمارة أبو ظبي مركزاً عالمياً لطاقة المستقبل، خصوصاً النوعين اللذان يصدران عن الشمس والهيدروجين. ووصف الرئيس التنفيذي لشركة"أبو ظبي لطاقة المستقبل"مصدر سلطان احمد الجابر هذه المبادرة بأنها"استراتيجية بعيدة المدى تسعى إلى إرساء دعائم قطاع اقتصادي جديد كلياً من شأنه أن يحول إمارة أبو ظبي إلى مقر"لتصدير التكنولوجيا. وبذلت جهوداً حثيثة في هذا الاتجاه منذ الإعلان عنها في العام 2006". وتحدث عن تأسيس"صندوق مصدر للتقنيات النظيفة"كأداة استثمارية تتخصّص بالطاقة المتجددة والتقنيات المستدامة المتطورة. وقد اختتم هذا الصندوق عامه الأول محققاً مجموعة كبيرة من العمليات الناجحة قل نظيرها في هذا النوع من الاستثمارات. وجمع الصندوق معظم رأسماله الذي يبلغ 250 مليون دولار خلال عام 2007، متقدماً بذلك بسنة عن الجدول المحدد. وأضاف الجابر ان الصندوق استثمر أمواله في عدد من الشركات التي تشهد عمليات توسيع لأعمالها وتركز على تطوير تقنيات واعدة واستثمارها في مجالات الطاقة المتجددة. وتضمن ذلك الطاقة الشمسية وتعزيز كفاءة استهلاك الطاقة إضافة إلى معالجة المياه وتحليتها. تعزيز أرصدة الكربون وتوفر مبادرة"مصدر"مجموعة من الحوافز التي تشجع على تخفيض انبعاث غازات التلوّث المسببة للاحتباس الحراري مثل الميثان وثاني أوكسيد الكربون وأول اوكسيد النتروجين، من خلال منح هذه التخفيضات قيمة مالية بما يتوافق مع"آلية التنمية النظيفة"التي أُقرّت في"بروتوكول كيوتو"الشهير. ترى"مصدر"أن"آلية التنمية النظيفة"تمثل فرصة كبيرة تتيح لإمارة أبو ظبي أن تتبوأ مكانة رائدة على صعيد التنمية المستدامة في المنطقة، وتستجيب في الوقت ذاته للمخاوف العالمية في شأن البيئة. ومن شأن تلك الآلية أيضاً أن توفر للشركات التي تتعامل مع الدول النامية فرصة الحصول على"أرصدة كربون"يمكن الشركات تجميعها مقابل تخفيض الانبعاثات الغازية من مشاريعها. ويطلق تعبير"رصيد الكربون"على المقدار الذي يزيد فيه الانخفاض في انبعاث غازات التلوّث عن المستوى الذي فرضه"بروتوكول كيوتو". وذكر الجابر ان"مصدر"توفر حلولاً متكاملة لمطوري المشاريع وفق مبادئ"آلية التنمية النظيفة"بما في ذلك الاستثمار والمساعدة التقنية وإدارة المشاريع وتمويل الكربون وغيرها. وتعمل"مصدر"حالياً على تطوير محفظة كبيرة من المشاريع المتوافقة مع"آلية التنمية النظيفة"يمتلك الجزء الأكبر من أصولها مستثمرون من دولة الإمارات العربية المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط مثل شركات"بترول أبو ظبي الوطنية"أدنوك وپ"كهرباء أبو ظبي"وپ"المنيوم دبي"دوبال وپ"هيئة مياه أبو ظبي". ولفت الجابر الى ان"مصدر"تعكف أيضاً على تطوير مشاريع بنية تحتية مستدامة، بهدف تخفض انبعاث غازات الكربون. وأشار الى أنها تولي اهتماماً خاصاً بالعمل على"التقاط غاز ثاني أوكسيد الكربون وتخزينه"أعلنت في آذار مارس الماضي عن مبادرة استراتيجية في أبو ظبي لإنشاء شبكة وطنية لالتقاط الكربون وتخزينه من أجل تعزيز كفاءة آبار النفط. وأوضح الجابر ان المبادرة أجرت دراسة جدوى شاملة في النصف الثاني من العام 2007 لتقويم الجوانب الاقتصادية والخيارات المتاحة في مسألة التقاط ثاني أوكسيد الكربون المنبعث من المنشآت الصناعية ومحطات توليد الطاقة في أبو ظبي. وبيّن أن كميات الكربون الملتقطة يُعاد ضخها في آبار النفط بحيث يرتفع الضغط فيها، ما يؤدي إلى رفع مستوى تدفق النفط منها. وستقدم الدراسة توصياتها للمشروع الأول بصدد التقاط الكربون، الذي يزمع إطلاقه في وقت لاحق من العام الحالي. وأوضح ان المبادرة وقعت اخيراً اتفاقية للتعاون مع شركتي"بريتيش بتروليوم"وپ"ريو تنو"من أجل وضع تصاميم هندسية متكاملة محطة طاقة هيدروجينية تستطيع العمل على المستوى الصناعي مع نظام التقاط الكربون وتخزينه. وسيكون هذا المشروع الأكبر من نوعه عالمياً اذ يولد عند اكتماله 420 ميغاواط من الطاقة النظيفة. طاقة الشمس للمستقبل حققت مبادرة"مصدر"تطوراً كبيراً أيضاً على صعيد تقنيات الطاقة الشمسية. وتعمل على استدراج عروض لبناء مصنع للطاقة الشمسية المركزة بطاقة 100 ميغاواط في"مدينة زايد"في امارة أبو ظبي. وسيكون هذا المصنع الأول ضمن سلسلة من المشاريع المشابهة في الإمارة ومختلف أنحاء الدولة، بحيث تضخ كميات إضافية من الطاقة في الشبكات العاملة راهناً. وسيستخدم المصنع تكنولوجيا"مرايا القطع المكافئ"، التي تعتبر نوعاً متطوراً من ألواح تحويل طاقة الشمس إلى كهرباء. ومن المتوقع أن يصبح قيد التشغيل في نهاية عام 2010. ومنذ شهرين، انطلقت اختبارات عملية على الألواح الكهروضوئية بهدف تقويم أداء مختلف أنواع هذه الألواح ضمن بيئة أبو ظبي. ويعد هذا الاختبار الأول من نوعه عالمياً. ويُنفّذ في الموقع الذي ستقام فيه"مدينة مصدر". ومن المقرر ضخّ الطاقة التي تولدها الألواح لتغذية شبكة كهرباء أبو ظبي. وصرّح الجابر"بأن الهيئة الإدارية ل"معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا"قد شُكّلت. وبدأ إجراء الأبحاث في 12 مجالاً مختلفاً. وستدعم الهيئة الجهود الهادفة إلى بناء جيل المستقبل من قادة قطاع الطاقة في أبو ظبي والعالم... كما يرتقب ان يصبح"معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا"الذي يجرى تطويره بالتعاون مع"معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا"، المرجع الأكاديمي الأول عالمياً في دراسات الطاقة المتجددة والمستدامة. وسيساهم هذا المعهد في تخريج كوادر بمؤهلات عالية لتلبية المتطلبات المتنامية لقطاع الطاقة النظيفة والمستدامة. وأضاف أن"شبكة مصدر للأبحاث"وقعت اتفاقات تعاون مع عدد من المؤسسات العلمية الرائدة المتخصصة في قطاع الطاقة المستدامة مثل جامعات"كولومبيا"في الولاياتالمتحدة الأميركية وپ"إمبيريال كوليج أوف لندن"في بريطانيا وپ"أخن"وپ"مركز البحوث الجوية والفضائية"في ألمانيا وپ"واترلو"في كندا وپ"معهد طوكيو للتكنولوجيا"في اليابان وپ"مركز أبحاث الطاقة"في إسبانيا. ولفت الى أن"شبكة مصدر للأبحاث"بدأت تعاونها مع"معهد طوكيو للتكنولوجيا"في مجال تقنيات الاشعه الشمسية. وفي هذا المعنى، تعتبر"مصدر"مساهمة متميزة من دولة نفطية في مجال الحفاظ على بيئة الأرض، ما يساعد على الحدّ من الكوارث الطبيعية أيضاً. ومن المعلوم ان الترابط بين التلوث والارتفاع في حرارة الارض من جهة والتزايد في عدد مآسي الطبيعة بات أمراً ملحوظاً من الناحية العلمية. ومثلاً، نشر"البنك الدولي"في نيسان أبريل 2006 تقريراً مُكرّساً للكوارث الطبيعية. وكتب مؤلفه رونالد باركر:"لقد زاد عدد الكوارث المرتبطة بتدهور البيئة في أركان الأرض الأربعة". وفي حين أنّ عدد الهزات الأرضية يبقى شبه ثابت، ارتفع عدد الكوارث الطبيعية المرتبطة بالمناخ. فمن متوسط سنوي يعادل 100 كارثة في العام 1975 وصل العدد إلى أكثر من 400 في العام 2005. ويعترف البنك بأنّ زيادة حرارة الأرض والتصحّر وانجراف الأراضي فاقمت المشاكل في مناطق بأكملها، كما يقر بأنّ البلدان النامية تعاني أضراراً لا تقلّ عن 30 بليون دولار سنوياً". وعقب ليستر براون، مدير"معهد سياسات الأرض"على هذا التقرير قائلاً:"هذه الكوارث، التي نواصل وصفها بأنها"طبيعية"، هي أحياناً من فعل البشر". وصدر تقرير مُشابه من الحكومة البريطانية في العام الفائت ورد فيه "أنّ مسؤولية البلدان الأقل تصنيعاً عن زيادة حرارة المناخ أدنى من مسؤولية البلدان الأكثر تصنيعاً، لكنها الأشدّ تأثراً بها. ولسوف تعاني البلدان والشعوب الأكثر فقراً قبل غيرها وأكثر من غيرها، حتى إذا كانت مساهمتها في تغير المناخ أقل بكثير... إن تغير المناخ هو أكبر فشل عرفه العالم لاقتصاد السوق". جائزة زايد للطاقة بيّن الجابر ان حكومة أبو ظبي، من خلال مبادرة"مصدر"، اطلقت"جائزة زايد السنوية لطاقة المستقبل"بقيمة 2.2 مليون دولار لتكريم الأفراد والهيئات من أصحاب الإنجازات المتميزة في مجال ابتكار وتطوير وتطبيق حلول الطاقة المستدامة. وأوضح انها ستمنح إلى ثلاثة أفراد أو هيئات ممن يقدمون مساهمات كبيرة في الجهود العالمية الرامية إلى تلبية حاجات العالم المستقبلية من الطاقة. وأشار أيضاً الى ان الجائزة تحمل اسم الأب المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي أرسى مبادئ الالتزام بالتنمية المستدامة والمسؤولية البيئية. ويتولى رئاسة لجنة التحكيم الخاصة بالجائزة الدكتور راجندرا ك. باشوري رئيس"الهيئة الحكومية المشتركة للتغير المناخي"التي حازت"جائزة نوبل للسلام 2007". وأكد الجابر ان"مصدر"ستواصل رصد فرص الاستثمار في تطوير تقنيات الطاقة الشمسية والهيدروجينية، وتخفيض انبعاثات الكربون، والمشاريع الصديقة للبيئة والتعليم العالي. وفي شباط فبراير المقبل، تعتزم"مصدر"وضع حجر الأساس لتطوير"مدينة مصدر"بحيث تصبح أول مدينة خالية من انبعاثات الكربون والنفايات والسيارات عالمياً. ومن المتوقع أن تحتضن هذه المدينة ألفاً و500 شركة و50 ألف نسمة عند اكتمالها في عام 2016. وستكون مقراً لكبريات الشركات العالمية وأبرز خبراء الطاقة المستدامة والبديلة. وأوضح ان من المقرّر توليد الكهرباء في المدينة بواسطة ألواح شمس كهروضوئية في حين أن تبريدها سيجري من خلال الطاقة الشمسية المركزة أيضاً. وستؤمن المياه لها بواسطة محطة تحلية تعمل بالطاقة الشمسية"بحيث تروى الحدائق التي تقع داخل نطاق المدينة وكذلك المحاصيل التي ستزرع خارجها بالمياه العادمة بعد معالجتها في محطة متخصصة داخل تلك المدينة. وأخيراً، أعلن الجابر إن"مصدر"تسعى لأن تكون مركزاً عالمياً لحلول طاقة المستقبل قولاً وفعلاً. وأعرب عن سعادته بالتقدم الكبير الذي أحرز خلال ال 21 شهراً الماضية.