شاءت المهنة ان يكون لي في عالم ما قبل 11 ايلول سبتمبر اصدقاء قساة. خطفوا طائرات او أمروا بخطفها. زرعوا عبوات او أرسلوا من يزرعها. احتجزوا رهائن او أصدروا فتوى الاحتجاز. وفي المقاييس الدولية تدرج اسماء هؤلاء في لوائح الارهابيين والمطلوبين. وغالبا ما كان هؤلاء مصابين بهاجس البحث عن وطنهم. مرة يصطدمون مباشرة بالاحتلال. ومرة اخرى يهاجمون داعميه. وثالثة يشتبكون فيها مع من يعتبرون انه يعوق طريقهم وحلمهم. وكان جورج حبش من ابرز هؤلاء"القساة"وأنصعهم. غاب جورج حبش من دون ان يتحقق حلمه. يمكن القول ان هذا الحلم بدا أشد صعوبة منه في اي يوم. بدا صعباً الى شفير الاستحالة. لم يتمكن من ان يشم ثانية رائحة تراب اللد التي ولد فيها. بخلت عليه بالعودة حياً. وستبخل عليه بعزاء النوم في ترابها. يخاف الاحتلال"الحكيم"حياً. ويخافه مسجى في الارض التي يعشق. يعرف الاحتلال ان هذا الرجل لا يتنازل عن حلمه وانه قد يستأنف التحريض من قبره. سألته في منتصف التسعينات ان كان يائسا. وكان لليأس ما يبرره. القيادة الفلسطينية عادت الى بعض تراب فلسطين بعد"مصافحة تاريخية"تابعها من بعيد عبر الشاشات. العراق استحال ركاما بفعل المغامرة التي ارتكبتها قيادته يوم غزت الكويت. الانقسام العربي صارخ والتدهور العربي في ذروته. الاتحاد السوفياتي اندحر وانفجر وغادر الى المتاحف مصطحبا معه المعسكر الاشتراكي. وصديقك فيديل كاسترو يقف على جزيرته العنيدة كقبطان يستعد لموعد الغرق. رد بابتسامة معجونة بالمرارة"لا وجود لليأس في قاموسي لا استطيع التسليم بانتصار دائم للظلم". كان جورج حبش يعرف انه بات يعيش في عالم غير ذلك الذي سمح له بارتكاب احلام"الثأر"و"العودة". وشعرت انه غرق في الذكريات. ثمة مشهد لم يستطع تناسيه او التخفيف من وطأته. مئات الاف الفلسطينيين يقتلعون في 1948 من ارضهم ويتحولون لاجئين في المخيمات. واعترف انه لولا ذلك المشهد لكان طبيبا ينهمك بحياته العادية وابحاثه وهواياته. لكن الرجل الذي خانته صحته باكرا لم يسمح لإرادته ان تخون. كان يردد ان المطلوب اعادة قراءة التجربة والاخطاء والمتغيرات رافضا ما اعتبره تبريرا للتنازلات تحت ستار الواقعية وتبدل موازين القوى. حين بلغني نبأ وفاته تقاطرت الصور في ذهني في ضوء ما سمعته منه ومن رفاقه خصوصا الذين تحلقوا حول رفيقه الاقرب الى قلبه الدكتور وديع حداد والذين اطلقوا غضبهم في وجه العالم احتجاجا على تناسيه مأساة الشعب الفلسطيني. كان جورج حبش صوتا صارخا وعنيفا ومتشددا اخطأ وأصاب، ما يسمح باتهامه أحيانا بالافتقار الى الواقعية من دون ان يسمح بالتشكيك بصدقه ونزاهته وهو تميز بهما. ذات يوم تلقى حداد رسالة مقتضبة من حبش يمكن ايجازها بكلمتين"اشعل المنطقة". وتجاوب حداد فنظم عملية خطف الطائرات الى"مطار الثورة"في الاردن في 1970 وتبع تلك الضربة المدوية ما تبعها. قبلها في 1968 تلقى حداد من حبش الذي كان سجينا في سورية كلمة السر وهي"أما آن الاوان يا وديع"فعرف حداد ان عليه المخاطرة. ذهب وديع الى دمشق ونظم عملية"خطف"السجين جورج حبش من حراسه ونقله الى لبنان. كان جورج حبش شديد الحضور في دفاتر النصف الثاني من القرن الماضي. من تأسيس"حركة القوميين العرب"الى تأسيس"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"ومن المواجهات الدامية في الاردن في 1970 الى حصار بيروت في 1982 مرورا بخطف الطائرات ونجومية كارلوس. كان حبش"ارهابيا"بالمعايير الدولية لكنه كان بالتأكيد"الارهابي"الحالم الناصع.