في الظل عاش وفي الظل انطفأ. لا صورة ولا تصريح. جيرانه في المبنى لا يعرفون قصته. ولا يعرفون انه مقعد لأن رصاص «الموساد» الإسرائيلي اصطاده في مدريد في 1984. لا يعرفون بالتأكيد أن هذا الرجل الذي يغالب العمر والأوجاع وضيق العيش كان ذات يوم مدرب كارلوس الفنزويللي الشهير ورفاقه الذين تولوا خطف الطائرات من عرب وأجانب. لا يعرفون بالتأكيد أنه شارك ذات يوم في ما هو أخطر من ذلك، وأدى إلى تغيير مجرى الأحداث وسيد القصر في إحدى دول المنطقة. انه محمد زكي خليل هيللو. في العام 2001 راودتني فكرة إجراء تحقيق عن القائد الفلسطيني الدكتور وديع حداد مسؤول «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي كان يتولى منصب الأمين العام فيها الدكتور جورج حبش. نصحني أحد من عملوا في عالم الظل بالبحث عن رفاق وديع الذين توزعوا في بلدان عدة. وكانت المهمة صعبة فقد كان هؤلاء يعيشون بلا عنوان معروف ويكتمون أرقام هواتفهم ويدرجون استقبال الصحافيين في باب المحظورات. بعد شهور وبفضل ثقة من تولى القيادة بعد غياب وديع أمكنني بدء العمل. هكذا قرعت باب شقة في الجزائر واستقبلني زكي هيللو. كان شديد الحذر في البداية. لم يسبق أن تحدث إلى صحافي. وانتابه القلق حين أخرجت آلة التسجيل. وكان لا بد من تدريبات وتعهد بإتلاف الأشرطة فور تفريغها. لا صورة ولا اسم. وهكذا كان لا بد من إسناد كلام الرجلين إلى من سميته المتحدث. واتضح لي أن خوفهما لم يكن يقتصر على الإسرائيليين بل تركز على الأميركيين أيضاً فقد كانا على لائحة المطلوبين التي تغيرت أولوياتها بعد هجمات أسامة بن لادن. وبسبب صعوبات النطق الناتجة من محاولة الاغتيال تعددت الجلسات على مدار ثلاثة أيام. انعقدت بيني وبين زكي هيللو صداقة حميمة وكان يضحك حين أحدثه عن «أصدقائي القساة» الذين خطفوا طائرات وزرعوا عبوات وأرسلوا انتحاريين. ولد محمد زكي هيللو في يافا في 1939. وغادرت عائلته إلى سورية في سنة النكبة. درس في سورية والتحق بحركة القوميين العرب. لدى حصول الانفصال بين مصر وسورية لوحق وفر إلى لبنان. نشاطه العسكري دفع المخابرات اللبنانية إلى اعتقاله مرات عدة. وبعد حرب 1967 أبعد إلى سورية وهناك التحق ب «الجبهة الشعبية». في أواخر 1968 شارك في عملية أدت إلى تحرير جورج حبش من أيدي الأمن السوري خلال نقله من سجنه إلى أحد مراكز التحقيق ورافق حبش في رحلة الفرار إلى لبنان. بعدها انتقل إلى عمان وكان عمله في مجال الأمن. في 1970 انضم زكي هيللو إلى «المجال الخارجي» برئاسة وديع حداد. قدراته المميزة دفعت حداد إلى تعيينه مسؤولاً عن التدريب والتأهيل العسكري. كان زكي هيللو مسؤولاً عن مخيم جعار، قرب عدن، والذي استقبل مناضلين من جنسيات مختلفة كان أبرزهم شاب فنزويللي اسمه اليتش راميريز سانشيز وسيقلق هذا الشاب العالم لاحقاً وسيعرف باسم «كارلوس». في مخيم «جعار» درّب هيللو كارلوس على الرماية والتفجيرات الصغيرة وانعقدت بينهما صداقة. قال لي: «كان كارلوس شاباً متحمساً ومندفعاً وذكياً. كان بارعاً في الرماية بالمسدس وسريع الاستيعاب. للأسف أفسدته الشهرة وأضاع البوصلة خصوصاً بعد غياب وديع». وفي ذلك المخيم أشرف زكي على تدريب عناصر من مجموعة «بادر ماينهوف» الألمانية و «الجيش الأحمر الياباني» وشبان وافدين من أوروبا وأميركا اللاتينية فضلاً عن عدد من الفلسطينيين والعرب. وشارك المتدربون في عمليات مدوية كعملية خطف وزراء «أوبك» في فيينا، باقتراح من معمر القذافي، وفي الهجوم في مطار اللد وعمليات عنتيبي ومقديشو وغيرها. في 1984 لاحق «الموساد الإسرائيلي» سيدة ألمانية اسمها مونيكا هاس من لحظة مغادرتها منزلها في ألمانيا بالسيارة وصولاً إلى مدريد. ذهبت «الإرهابية» لمقابلة زوجها زكي هيللو. ولدى مرور زكي في السيارة أطلق عميل ل «الموساد» النار عليه وأصابه في رقبته. نجا المستهدف من الموت لكنه أصيب بعطب دائم. نقل إلى عدن وغادرها بعد اقتتال «الرفاق» في 1986 إلى الجزائر حيث انطفأ الأربعاء الماضي. واصلت الاتصال به منذ لقائنا الأول. كان يغتنم اتصالي لرثاء العراق مرة وحديثاً سورية معرباً عن قلقه من انحسار العروبة لمصلحة الجزر المذهبية و «الأفكار التي تعيدنا إلى الكهوف». كان زكي هيللو شجاعاً ونقياً وكان «إرهابياً ناصعاً».