عادت رواية "الماضي البسيط" إلى الواجهة الأدبية المغربية لمناسبة مرور حوالى خمسين سنة على كتابتها ووفاة صاحبها الكاتب إدريس الشرايبي عام 2007 عن عمر يناهز 81 سنة قضى معظمها في الكتابة والسفر. هذه الرواية التي أسالت الكثير من المداد لحظة صدورها ولا تزال، تطرح العديد من الأسئلة حول علاقة الأدب بالمجتمع ومدى خصوصية هذه العلاقة إن وجدت، وآثارها على المجتمع في تحولاته المختلفة وعلى الأدب في حد ذاته باعتباره العين اليقظة الملتقطة بنباهة معظم هذه التحولات والمسجلة للذبذبات التي تسري في أركانها. صدرت الرواية في طبعتها الأولى عن دار دونوي الفرنسية سنة 1954 أي قبل سنتين من استقلال المغرب، وبما أنها انتقدت المجتمع المغربي آنذاك باعتباره مجتمعاً تقليدياً تمنح فيه السلطة للرجل على المرأة وللأب على أبنائه في شكل كبير، من خلال وصف الكاتب لعائلة الحاج فردي التي قام بتشريح بنياتها في شكل مفصل ودقيق، إلى حد أن الرواية اعتبرت بحسب النقاد سيرة ذاتية للكاتب نفسه، أو على أقل تقدير تمتح من سيرته الذاتية الشيء الكثير، فإن الرواية لاقت معارضة شديدة من الوطنيين آنذاك وتم انتقاد ما ورد فيها من أفكار عدم مراعاة الكاتب الوضع العام الذي كان يعيشه المغرب لحظتئذ. مع ذلك فإن هذه الرواية، نظراً الى جرأتها والى طريقة كتابتها المتميزة التي تشبه في بنائيتها كتابة الروائي الأميركي وليام فولكنر، استطاعت أن تفرض نفسها بقوة ليس فقط على الأدب المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية فحسب بل الفرنكوفوني والعالمي أيضاً، كما جعلت من كاتبها، وهي روايته الأولى، أحد مشاهير الكتابة الفرنكوفونية من جهة وأباً للكتابة المغربية باللغة الفرنسية من جهة أخرى، لكنها مع ذلك وربما بسببه غطت على كل ما كتب الكاتب من روايات بعدها، وعلى رغم محاولاته الجادة التخلص من سلطتها الرمزية الطاغية فإنه لم يستطع. الرواية تتحدث بعمق عن عائلة الحاج فردي وعن علاقته بزوجته التي لم يكن يعيرها الاهتمام اللائق شأنه في ذلك شأن كل الأزواج في ذلك الوقت، فقد كان يعتبر نفسه سيد بيته بلا منازع، يملك زوجته كما يملك أولاده وله الحق في القرار الذي يراه مناسباً لهم جميعاً من دون أن يسمع أي رأي يعارض توجهاته الأبوية السلطوية. لا يتعلق الأمر بالشؤون المهمة في حياة الأسرة فحسب بل حتى بكيفية تناول الطعام والوقت المحدد لذلك، فإن تأخر أحد من أولاده عن الالتزام بذلك فالويل له، انه لن ينام إلا بعد أن يأخذ حصته كاملة من التأديب، كما أنه ليس لأحد الحق في تخليص هذا الابن الضال في نظر أبيه من العقاب المستحق، بما في ذلك الأم نفسها التي كانت ترى هذا الموقف والدموع تملأ عينيها من فرط تألمها الصامت. فلسفة الأب كانت تتلخص في ما يلي:"النساء يشترين والأطفال يصنعون صنعاً وعند الاقتضاء نستغني عن جميع القوانين". ونجد في الرواية حضوراً قوياً لما سيعرف بصراع التقاليد أو صراع الأجيال والثقافات، فهذا الابن الذي يحمل اسم الكاتب نفسه أي إدريس والذي يمتلك سلطة السرد في الرواية يقدم الأشياء من زاويته الخاصة، فهو تعلم في مدارس فرنسا واستطاع أن يندمج في ثقافتها، بدءاً من لباسها إلى التغلغل عميقاً في مجمل تجلياتها الفكرية. وهو ما كان يتقبله الأب بنوع من الرفض المبطن بالسخرية، لكن بكثير من الإعجاب الذي يحرص على عدم إظهاره لابنه كي لا يغتر الابن ويستعلي عليه. يقول الأب في أحد حواراته مع ابنه إدريس فردي:"نحن ندرك لماذا ترتدي بدلة إفرنجية، فلو أنك ارتديت"الجلابة"والشاشية لبدوت في المعهد وكأنك جمل في قلب القطب الشمالي. لكن حالما تعود إلينا بالله عليك لا تؤذ أعيننا. لا ربطة عنق، ولا سراويل طويلة الساقين. شمرهما حتى الركبتين كسراويل"الغولف"على الطريقة التركية، واخلع حذاءك طبعاً قبل أن تدخل. فالغرفة التي يجلس بها أبوك ليست معبراً ولا إسطبلاً. هذا الصراع بين جيلين متباعدين، جيل الآباء وجيل الأبناء وبين ثقافتين مختلفتي المنابع إحداهما عربية تقليدية وأخرى فرنسية حداثية، هو ما ولد امتداداً ثقافياً في هذه الرواية وجعلها تمتد عميقاً في الزمن، بحيث استطاعت أن تؤثر في معظم الروايات المكتوبة بعدها خصوصاً تلك التي كتبت بالفرنسية، ليس الروايات المغربية فحسب بل المغاربية أيضاً، إذ نجد التيمات التي تطرقت إليها حاضرة في كل من روايتي"حرودة"للطاهر بن جلون وپ"التطليق"لرشيد بوجدرة، فضلاً عن حضورها في ما بعد في رواية"مسعودة"لعبد الحق سرحان. أما الجيل الروائي المغربي الجديد فقد شكلت له هذه الرواية، خصوصاً في صداميتها وأفقها الكتابي العميق، بؤرة توجه نحو طرح كثير من القضايا الاجتماعية المرتبطة بالهوية والاختلاف والبعد التحاوري مع مجموعة من القيم الإنسانية في مختلف أبعادها الرمزية. أما بخصوص حضورها في العالم الغربي، خصوصاً الفرنكوفوني، فإن الكاتب إدريس الشرايبي نفسه يتحدث عنه بكثير من الاعتزاز الذاتي، خصوصاً في كتابيه"رأيت، قرأت، سمعت"وپ"العالم جانباً"، بحيث يرى أن صدور هذه الرواية حوله بسرعة إلى كاتب كبير يشغل الرأيين الثقافيين: الفرنسي والمغربي على حد سواء، خصوصاً بعد الآراء السياسية المتباينة حولها. كما أن الرواية الثانية التي كتبها بعدها أي رواية"التيوس"التي طرح فيها للمرة الأولى مشكلة المهاجرين في فرنسا، كانت من بين الروايات المرشحة لنيل جائزة الغونكور لولا بعض الحيثيات التي حالت دون تحقيق ذلك. كما أن رواياته الأخرى اللاحقة، وعلى رغم طابعها العالمي والمجدد على مستوى المضامين المطروحة أو الطرائق السردية المتبعة، لم تستطع أن تصل إلى شهرة رواية"الماضي البسيط"وهو ما جعل اسم كاتبها يرتبط بها ارتباطاً يكاد يكون كلياً، فما أن يذكر اسم إدريس الشرايبي حتى تتبادر هي وحدها إلى ذهن المتلقي من دون سائر كتبه الأخرى، مثله في ذلك ما حدث مع الروائي السوداني الطيب صالح وروايته الشهيرة"موسم الهجرة إلى الشمال"أو ما حدث مع الروائي المغربي الآخر محمد شكري وسيرته الذاتية التي طبقت شهرتها الآفاق:"الخبز الحافي". هذه العودة القوية لحضور رواية"الماضي البسيط"في المجال النقدي المغربي، خصوصاً المكتوب منه بالفرنسية ليس مرده فحسب إلى موت صاحبها، وإنما لأنها رواية جديرة بالقراءة المتعددة والمتجددة باستمرار، لا سيما بعد أن تجاوزت ظروف كتابتها وظروف نشرها، واستطاعت أن تتخلص من وطأتهما وتفرض ذاتها على القارئ المغربي والعربي والعالمي باعتبارها رواية قبل أي شيء آخر. وعلى ذكر القارئ العربي، تجدر الإشارة إلى أن هذه الرواية نقلها إلى اللغة العربية المترجم التونسي محمد عجيبة، عام 1986، وفضل هذا المترجم أن يضع لها عنواناً آخر هو"بوابات الماضي".