يؤلمني أن أبدأ هذه الزاوية بكلمة تعكّر على القارئ صفو صباحه، ولعل هذه المقدمة محاولة لتخفيف وطأة الموضوع، وتجنيب نفسي والقارئ أن تكون الكلمة الأولى: أنعى الى الأمة موت الشارع العربي. هو مات، قضى، مضى، راح وأراح واستراح. هذا الشارع تظاهر يوماً ضد الاستعمار والاحتلال، وكان له شهداء حصدهم الرصاص أو علقوا على أعواد المشانق، بل هو تظاهر عناداً وانتصر للهزيمة، واليوم مات. جورج بوش تسبب في حرب على العراق قتلت 600 ألف عربي ومسلم، مع تقديرات أميركية ترفع الضحايا الى مليون. وزارنا واسرائيل تقتل كل يوم اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرين فلسطينياً، بمن فيهم نساء وأطفال، وقال إن حماس والجهاد وحزب الله منظمات ارهابية. ليس الأمر انه لم يرَ ارهاب اسرائيل، فهو شريك فيه، والضحايا من فلسطين الى العراق، ومروراً بلبنان، قتلتهم طائرات حربية أو مروحيات أميركية تلقتها اسرائيل هدية، أو قنابل عنقودية تسعى أوروبا لمنعها وتترك اسرائيل في لبنان مليون قنبلة صغيرة منها، لا يمضي أسبوع أو اثنان من دون أن نسمع عن ضحية آخر لها. هل لاحظ القارئ انه لا يُقتل هذه الأيام غير المسلمين؟ قد يقتل ناس في سريلانكا أو افريقيا، إلا أن الارقام الكبيرة يوماً بعد يوم هي في بلدان العرب والمسلمين فقط، من افغانستان وباكستان والعراق الى فلسطين والسودان، وحتى الجزائر وغيرها. هناك ارهابيون من المسلمين يقتلون مسلمين في كل بلد ثم يكفّرون غيرهم وهم رأس الكفر، وأعداء الاسلام والمسلمين. ولا عذر لهؤلاء أو اعتذار عنهم، فكل من يفعل شريك معهم. غير أننا تعلمنا أن"الكفر ملة واحدة"، وأكثر القتل هو في افغانستان حيث كانت ادارة بوش تستطيع أن تكمل الحرب وتقضي على الارهابيين نهائياً، فلم تفعل، وفي العراق حيث شُنّت حرب لأسباب ملفقة عمداً، أو بين الفلسطينيين بسلاح أميركي ومال. المسلمون يقتلون وجورج بوش يزور بلادهم فماذا فعل الشارع العربي؟ كان هناك عشرات من المتظاهرين من حزب الله في لبنان، وآخرون في البحرين، ربما نيابة عن ايران، وبضعة ألوف من انصار حماس في غزة، وعشرات آخرون أمام نقابة الصحافة في القاهرة، وأمام البرلمان، وفي الاسكندرية أمام محكمة الحقانية، ومواقف وطنية متفرقة. أعداد المتظاهرين العرب باستثناء غزة لم تكن أكبر من الأعداد في اسرائيل حيث تظاهر الفلسطينيون من أهل 1948 واليسار الاسرائيلي ضد زيارة بوش. مليون ضحية من المسلمين، وكل يوم ضحايا جدد، والشارع العربي لا يقدم سوى بضع مئة متظاهر. أين الملايين الهادرة من المحيط الى الخليج؟ أين العرب؟ كان هناك 11 مليون متظاهر حول العالم ضد الحرب في 15/2/2003، وتظاهر ملايين آخرون في 20/3/2003، ولم يزر جورج بوش بلداً على الاطلاق إلا وتظاهر ألوف ضده، عشرات الألوف أو مئات الألوف. "تحالف أوقفوا الحرب"حشد عشرات الألوف عندما زار بوش بريطانيا في تشرين الثاني نوفمبر 2002. وفي كانون الأول ديسمبر 2004 تظاهر ألوف آخرون ضد بوش في أوتاوا، عاصمة كندا، وهتفوا"بوش مجرم"و"اخرجوا من العراق"كانت أظرف لافتة"بلدة في تكساس فقدت مجنونها"، كما نقول في لبنان"أخوَت الضيعة". وفي آذار مارس 2006 تظاهر ألوف في مختلف أنحاء الهند ضد زيارة بوش، وفعل مثلهم ألوف المكسيكيين عندما زار بوش بلادهم ليفاوض على الهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات، وهاجم المتظاهرون الرئيس المكسيكي فيليب كالدرون مع بوش، وتبعت التظاهرات الرئيس بوش الى أميركا اللاتينية، فتظاهر ألوف ضده في آذار الماضي في أوروغواي والبرازيل. وكذلك فعل ألوف في براغ، بل ان المتظاهرين تبعوا بوش الى جزيرة بالي. مئات ألوف المتظاهرين حول العالم، والقضايا لا تزيد على البيئة أو التجارة أو قاعدة رادار. وفي بلادنا مليون ضحية والقضية مستقبل الأمة، فلا يتحرك غير بضع مئة متظاهر. أين الشارع العربي؟ هو مات، ولم أسمع عن مجلس عزاء واحد، فقد كان"هيّناً"على نفسه وعلى الناس، ومن يهن يسهل الهوان عليه، وقد أسمعتَ لو ناديت حياً...