25 مليون نسمة، هذا هو الرقم الذي كان الخبراء الروس يذكرونه عند الحديث عن تعداد المواطنين الذين هاجروا الى خارج البلاد خلال العهد السوفياتي وحتى العام 1990، اي عندما كان الاتحاد السوفياتي يلفظ أنفاسه الاخيرة، ولم يكن يخطر في بال المتخصصين آنذاك ان موجات الهجرة الثلاث التي سببت رحيل ملايين الروس عن بلادهم منذ وصول البلاشفة الى السلطة ستتبعها موجة كبرى لا تقل أهمية مع رحيل الشيوعيين عن هذه السلطة في بدايات تسعينات القرن الماضي. الموجات الثلاث السابقة تزامنت مع أحداث سياسية كبرى وكانت لها أسباب أيديولوجية معروفة، فالأولى بحسب تقسيم العلماء امتدت من العام 1917 الى 1938، ونقلت نحو أربعة ملايين روسي الى الدول الغربية استوطن معظمهم في أوروبا، وحلت الموجة الثانية مباشرة بعد ذلك مرتبطة بالهزات العميقة التي أحدثتها سياسة الزعيم السوفياتي جوزف ستالين وأسفرت عن فرار كثيرين، ويسجل الخبراء فقدان روسيا اكثر من عشرة ملايين نسمة في تلك الفترة التي تزامنت مع الحرب العالمية الثانية، جزء كبير منهم شارك في الحرب العالمية وتعرض للأسر في المانيا ولم ير وطنه بعد ذلك. أما الموجة الثالثة فقد بدأت بعد قيام الستار الحديد الذي فصل روسيا عن الغرب في أيام الحرب الباردة، وغالبية المهاجرين في تلك الفترة كانوا من أصحاب الرأي المعارضين للحكم الشيوعي. مع تغير أحوال روسيا بعد انهيار الدولة العظمى وسنوات الانفتاح التي ترافقت مع غليان سياسي وفوضى اقتصادية خلفت كوارث ونقلت نحو ثلثي مواطني روسيا الى ما دون خط الفقر، تغيرت ملامح المهاجرين الروس، وأسباب رحيلهم عن بلادهم، وباستثناء موجات الهجرة التي نقلت اكثر من مليون ناطق بالروسية الى إسرائيل، خصوصاً منذ النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي أكثر من نصفهم ليسوا يهوداً بحسب الدراسات لم تتخذ الهجرات الجديدة من روسيا طابعاً سياسياً أيديولوجياً، بل تركزت على البحث عن فرص حياة جديدة بعيداً من التقلبات الاقتصادية وحال عدم الاستقرار والعوز، اي ظهرت في روسيا حال جديدة لم تكن معروفة في السابق هي العمالة المهاجرة بحثاً عن لقمة العيش. ويصف الخبراء موجات الهجرة الأولى التي رافقت مرحلة الانهيار وما تلاها بأنها اخطر هجرة شهدتها البشرية على مدار قرون، إذ شهدت هذه الفترة المشكلة التي عرفت في روسيا لاحقاً باسم"هجرة العقول"وبحسب تقديرات مراكز انتقال مئات الآلاف من العلماء والمتخصصين في مجالات نادرة بعدما توافرت لهم فرص عمل مجزية في الغرب، واستوطن كثير منهم في إسرائيل والولاياتالمتحدة اللتين استقبلتا الجزء الأعظم من هذه الفئات، فيما انتقل آخرون الى بلدان أوروبا الغربية. وإضافة الى الخبراء في مجالات خطرة مثل التقنيات النووية والكيماوية وعلماء الفيزياء والرياضيات والتقنيين في المنشآت الحيوية الاستراتيجية، انتقل الى الغرب في تلك الفترة خبراء في قطاعات واسعة من المجالات الأخرى، بدءاً من التسلح مروراً بالمهندسين والخبراء في المجمعات الصناعية الكبرى وصولاً الى مجالات الرياضة المختلفة. ويقدر علماء وبينهم عالم الفيزياء الحاصل على شهادة نوبل جويس الفرويف خسارة روسيا بفقدان هذه"العقول"بپ"بلايين لا تحصى". واللافت انه في حالات الهجرة العادية شهدت الأمور مداً وجزراً وفقاً لطبيعة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في روسيا، لكن هذا الوضع لا ينطبق على"هجرة العقول"، ما يعني ان الاخيرة لم تشهد هجرة معاكسة كما هي الحال في مجالات أخرى مختلفة. وبعيداً من خصوصية وضع الخبراء والعلماء الذين تلقفتهم بسرعة كبيرة دول مختلفة، فإن سنوات الإصلاح العشوائي في روسيا شهدت للمرة الأولى منذ عقود تنامي ظاهرة العمالة المهاجرة من البلاد، وطبيعي ان الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة رمت بظلال ثقيلة على غالبية السكان، وبدأت مشكلة البطالة تثقل كاهل كثيرين كانت الدولة تؤمن لهم متطلبات كثيرة افتقدوها على نحو مفاجئ، وتعد مشكلة البطالة في روسيا المعاصرة واحدة من اعقد المشكلات التي تواجه السلطات، خصوصاً انها ترهق كواهل ملايين الأيدي العاملة غالبيتهم الساحقة من الجيل الشاب والمتخصصين المتوسطي العمر، وبحسب المراكز المختصة ما زالت روسيا تعد واحدة من الدول التي تشهد أعلى نسب بطالة في العالم، بصرف النظر عن التطورات الإيجابية على الصعيد الاقتصادي بعد الهزة الكبرى التي شهدتها البلاد في العام 1998 انهيار القطاع المصرفي. وبحسب معطيات وكالة"روس تات"يبلغ تعداد الروس الذين لا يحصلون على دخل ثابت نحو 20 في المئة من مجموع السكان، ناهيك بأكثر بقليل من ثلث السكان الذين يحصلون على دخل لا يكاد يسد رمقهم، وأدى ذلك الى تشجيع هجرة الأيدي العاملة من روسيا الى الدول الغربية، وخلال السنوات من 1992 الى 1999 سجلت الدوائر المختصة هجرة نحو 12 مليون روسي للعمل خارج البلاد، وجد جزء كبير منه طريقه الى الدول الأوروبية. وعلى رغم التفاوت الكبير الذي يميز نسب العمالة الروسية المهاجرة لأنها ليست ثابتة، اي لا تنتقل العمالة الروسية المهاجرة في غالبية الأحيان الى الاستقرار النهائي في مواطن عملها الجديدة، لكن الأكيد ان الأرقام شهدت ارتفاعاً متواصلاً حتى بدأت تتجه نحو الاستقرار في العام الأخير من القرن الماضي. ويرتبط تسرب الأيدي العاملة الروسية الى الغرب الى درجة كبيرة بمعرفة اللغات الأجنبية، ما يعني ان غالبية المهاجرين بحثاً عن فرصة عمل هم من خريجي المعاهد العليا، وعادة يقبل الروس على العمل في قطاع الخدمات البسيطة والمتوسطة المطاعم والمتاجر والفنادق ومحطات الوقود في الولاياتالمتحدة خصوصاً وفي عدد من بلدان أوروبا الغربية والشرقية التي شهدت انفتاحاً أتاح توفير فرص عمل للقادمين من روسيا كونهم ارخص ثمناً بالمقارنة مع العمالة المحلية. وبحسب الوكالة يحصل العامل الروسي العادي على 1500-2000 دولار شهرياً، وهذا رقم جيد بالنسبة الى العامل الروسي غير المؤهل في الغالب لأنه يعمل في قطاع بعيد من تخصصه اذا كان خريجاً جامعياً. أما قطاع المؤهلين ذوي الكفاءة الأعلى فيزيد الطلب عليهم تحديداً في الولاياتالمتحدة، ومن هؤلاء المتخصصون في الحاسوب وأنظمة البرمجة، غذ يحصلون في المتوسط على نحو 60 ألف دولار سنوياً. ووفقاً لإحصاءات وضعت في العام 1999 فإن اكبر نسب العمالة الروسية المهاجرة توجهت الى قبرص واليونان وايطاليا والمانيا ومالطا وهونغ كونغ وسنغافورة وبالطبع الولاياتالمتحدة وكندا واسرائيل، واللافت ان ثمة هجرة نشطة بحثاً عن فرص عمل اتجهت في تلك الفترة نحو دول مثل ليبيريا ونيجيريا وغيرهما من الدول. وتشير تقديرات المؤسسات المتخصصة في روسيا الى ان الدول المذكورة تستضيف نحو 84 في المئة من الأيدي العاملة الروسية المهاجرة، لكن يبقى عدو الأمس الأيديولوجي ? الولاياتالمتحدة الملجأ المفضل بالنسبة الى غالبية فئات المهاجرين الروس الذين يتقنون الانكليزية. المثير في مسألة العمالة الروسية المهاجرة ان السنوات الاولى التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي شهدت ظاهرة ما زالت هي المسيطرة حتى الآن على رغم التحسن الاقتصادي النسبي في روسيا خلال السنوات الاخيرة، إذ تسيطر على العمالة المهاجرة من روسيا ظاهرة"تصدير"فراشات الليل"، اي الفتيات اللواتي يتجهن للعمل في الملاهي الليلية والنوادي وغيرها من الأماكن المتخصصة في تقديم هذه الخدمات، وتصل نسبة هؤلاء الى أرقام قياسية، إذ تشير تقديرات مركز روسي الى وجود اكثر من مليوني فتاة يعملن في هذا القطاع، الجزء الأعظم منهن توجه الى أوروبا الغربية والولاياتالمتحدة، فيما فضلت فئات أخرى التوجه الى بلدان الشرق الأوسط وإسرائيل. وتشهد هذه التجارة ازدهاراً متواصلاً بصرف النظر عن التحولات الاقتصادية داخل روسيا، وغالباً ما تتجه فتيات الليل الى العمل بعقود وهمية كنادلات او مضيفات قبل ان ينخرطن في مجال الدعارة. وبحسب بعض التقديرات تعود هذه التجارة على"مافيا"الدعارة بأرقام خيالية وضعها البعض الى جانب عائدات تجارة المخدرات والسلاح. لكن من المهم الإشارة الى وجود خلط بين العمالة المهاجرة من روسيا والعمالة الوافدة من البلدان الناطقة بالروسية. وهذا لا يقتصر على"فراشات الليل"، بل ينسحب على كل المجالات الأخرى، فعادة يتم إطلاق تسمية"روسي"على كل الفئات من العمالة الوافدة من الجمهوريات السوفياتية السابقة، ومثلاً وبحسب معطيات مركز أردني فإن عشرات الآلاف من"الروس"يعملون في قطاع الخدمات غالبيتهم في الملاهي والمطاعم في حين دلت دراسة حديثة في موسكو الى ان اقل من ربعهم هم روس. أخيراً، لا يمكن الحديث عن العمالة المهاجرة من روسيا من دون الإشارة الى الظاهرة المقابلة لها، اي الهجرة المعاكسة التي بدأت روسيا تشهدها بنشاط خلال السنوات الاخيرة، ويعزو البعض هذا التطور الى التحسن النسبي وتوافر فرص عمل جديدة في روسيا. لكنّ آخرين يرجعون ذلك الى القيود التي تضعها البلدان المستوردة للأيدي العاملة، وخصوصاً بلدان أوروبا الغربية. في كل الأحوال، فإن الجهات المختصة الروسية اعتبرت الأرقام التي تحدثت عن زيادة أعداد"العائدين"الى سوق العمل في روسيا مؤشراً إيجابياً بسبب حاجة روسيا الملحّة لتحقيق توازن ديموغرافي بعدما أشارت دراسات الى ان البلاد مقبلة على أزمة ديموغرافية حادة تسعى السلطات حالياً لمواجهتها. وفي إطار الهجرة المعاكسة أيضاً تستقبل روسيا سنوياً ملايين العمال من جمهوريات سوفياتية سابقة، وقد زادت نسبهم عن كل توقعات السلطات المعنية، ويكفي للمقارنة ان نذكر ان العام 1999 شهد بحسب دراسة أجراها مركز متخصص هجرة عشرة ملايين يد عاملة من روسيا. في المقابل استقبل سوق العمل الروسي 12.6 مليون يد عاملة. وعلى رغم ان البعض يرى في هذه الظاهرة تعويضاً مهماً لروسيا عن خسارتها الديموغرافية، لكن الثابت ان هذه الهجرة تواجه مشكلات كبرى لا تقف عند قصور التشريعات الروسية التي لا تمنح هؤلاء المهاجرين حقوقاً تمكنهم من الاستقرار في عملهم وحياتهم المعيشية، بل تمتد لتصل الى تنامي ظاهرة التطرف القومي ضد"غزو الأيدي العاملة الأجنبية"، وهي مشكلة بدأت تتحول في روسيا تدريجاً خلال السنوات الاخيرة نحو مسار خطر مرشح للتصاعد اكثر بسبب الرواج الكبير الذي تتمتع به الأفكار العنصرية المتطرفة.