سبق أن أعرب عدد من الساسة الأتراك عن رغبتهم في تسوية المسألة الكردية في شكل سلمي. حدث هذا في عهود حكومات تورغوت أوزال وسليمان ديميريل وتانسو تشيلر. غير أن الأمر لم يتعد، في كل مرة، الحماس اللفظي. ولم يكن يمضي وقت كثير حتى تغيب الوعود ويلفها النسيان. وكان أن استمرت المشكلة بل زادت تفاقماً. غير أن الحال مع"حزب العدالة والتنمية"مختلف. فهو جاء إلى السلطة مسلحاً ببرنامج متكامل في إطار دمقرطة الدولة التركية. وتحتل مسألة حقوق الأكراد حيزاً كبيراً من هذا البرنامج. وكان هذا أحد الأسباب التي جعلت الحزب يكتسح الأصوات الكردية في جنوب شرقي البلاد. وهو أوصل أكثر من خمسة وسبعين نائباً كردياً إلى البرلمان في حين فشل حزب المجتمع الديموقراطي، المتعاطف مع حزب العمال الكردستاني، في إيصال أكثر من عشرين نائباً. وكان المسؤولون الحكوميون في حزب العدالة والتنمية، ومنهم رئيس الدولة عبدالله غُل ورئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، باشروا في وضع اللبنات الأساسية لبرنامجهم الكردي. والخطوط العريضة لهذا البرنامج تقوم على العمل من أجل تطوير البنية الاقتصادية والاجتماعية في المناطق الكردية من خلال"استراتيجية تنموية خاصة"، والاعتراف بالخصوصية الكردية من جهة اللغة والثقافة والتاريخ وجعل ذلك جزءاً من الهوية التعددية للدولة التركية بحيث يصبح الأمر مصدراً لإعتزاز الأتراك لا نفورهم، والسعي من أجل نزع سلاح حزب العمال الكردستاني وإقناع مقاتليه بالتخلي عن العنف والنزول من الجبال والعودة إلى المجتمع للعمل من داخله وممارسة السياسة تحت قبة البرلمان بالكلام لا بالرصاص. في رأي"حزب العدالة والتنمية"فإن حل الموضوع الكردي هو الطريق إلى تعزيز الديموقراطية التركية وخلق مجتمع سليم ومعافى. خلال سنوات رئاسته السبع لم يذكر الرئيس السابق نجدت أحمد سيزر كلمة، كرد، على الإطلاق بل إنه لم يشر إلى التعدد الإثني في تركيا، أما زعيم"حزب العدالة والتنمية"طيب أردوغان والرئيس الحالي للدولة عبدالله غُل فإن الحديث عن الأكراد والموضوع الكردي بالنسبة لهما من بديهيات الأشياء. بل إن اردوغان ما انفك يتحدث عن الأخوّة الكردية - التركية. يشدد"حزب العدالة والتنمية"على التطوير والتصنيع والتعليم في المناطق الكردية وإطلاق اللغة الكردية في الصحف والإذاعة والتلفزيزن وفتح البرلمان أمام النواب الأكراد. ولقد تحدى الحزب احتكار الجيش المزمن للموضوع الكردي واستطاع بحنكة وذكاء إخراجه من بين أيديه ونقله من الثكنات إلى الشارع.. وكان هذا كسراً للإيديولوجية الكمالية التي تقوم على إنكار وجود الأكراد. لا يعني هذا أن كل شيء على ما يرام وأن الأكراد سينتقلون في غضون أشهر قليلة من جحيم الغبن والتجاهل والقمع إلى جنة الحرية. غير أن ثمة رغبة حقيقية لكسر جدار الصمت الذي ما برح يحيط بالموضوع الكردي. هناك ميل حقيقي لدى حزب العدالة والتنمية إلى معالجة أسباب ظهور واستمرار العنف الذي ألحق الويلات بالجميع أتراكاً وأكراداً، وهي أسباب سياسية وقومية واقتصادية وثقافية. فالحزب العمالي الكردستاني، كما يرى أردوغان ورفاقه، هو نتيجة وليس سبباً. إنه ثمرة سياسة شوفينية خاطئة دشنتها الكمالية وحافظ الجيش عليها سبعين سنة. الآن ينبغي فعل شيء حقيقي لحل الموضوع . في أثناء ذلك تنهض المحاججة الصحيحة في أن تركيا مضطرة لملاحقة المقاتلين الذين يهددون أمنها أياً كان هدفهم وأنى كان مكان تواجدهم. أليس هذا ما تفعله الولاياتالمتحدة الأميركية على بعد ألاف الأميال من حدودها بحجة تهديد أمنها القومي؟ كدولة مستقلة ذات سيادة فإن وظيفة حكومة تركيا، وأية حكومة أخرى، هي حماية مواطنيها من العنف. سينهض من يقول: ولكن تركيا ماانفكت تحرم الأكراد من حقوقهم وتطاردهم وتظلمهم... الخ. هذا صحيح. هذا هو الميراث الأسود للكمالية. و"حزب العدالة والتنمية"يسعى، من بين أشياء أخرى، الى التخلص من التركة الكمالية على صعيد الموضوع الكردي. والحال أن"الحزب العمالي الكردستاني"إنما يسعى إلى إفشال خطة حزب العدالة للحل. وهو يعلن وعلى رؤوس الإشهاد أن مهمته هي إسقاط هذه الحكومة التي تقارب الشأن الكردي مقاربة جديدة غير مسبوقة. والسبب في ذلك على ما يلاحظ مراقبون للوضع التركي هو خشية الحزب من أن يتم سحب البساط من تحت قدميه بوصفه الممثل الشرعي الوحيد لأكراد تركيا، بل لعموم الأكراد على وجه الكرة الأرضية. وأي حل لأي شأن كردي من دونه يعتبر هجوماً على الأكراد. ومن يقرأ أدبيات الحزب منذ تسلم حزب العدالة سدة الحكم في تركيا سيكتشف الحدة التي يعادي بها حزب العمال كل إجراء تقوم به الحكومة في ما يخص الشأن الكردي. ومن سجنه سرّب زعيم الحزب، عبدالله أوجلان، تعليمات يعتبر فيها حزب العدالة العدو اللدود للأكراد. وهو مابرح يدعو الأكراد والعلمانيين والعسكر إلى التكاتف لمواجهة ما يعتبره الخطر"الرجعي"الذي يشكله حزب العدالة على الكمالية التي تعتبر، في رأيه، المفتاح الأمثل لحل الموضوع الكردي. عندما ينظر الأكراد في تركيا إلى طيب أردوغان فإنهم لايرون فيه ذلك الحاكم الشوفيني الذي يحتقر الاكراد ويعتبرهم مجرد جبليين متخلفين بل رجلاً قريباً منهم يحس بهم ويتفهم مشاعرهم. قال أردوغان إن الأولوية تكمن في حمل المقاتلين الكرد على إلقاء أسلحتهم والركون إلى السلم وممارسة العمل السياسي تحت قبة البرلمان. وقد واجه نتيجة ذلك حملة شديدة من المعارضة التي راحت تتهمه بالرضوخ للإرهاب والسعي الى إسباغ الثوب الديموقراطي على الإرهابيين. وانتقده بعضهم لاستعماله جملة إخوتي الكرد. وهو رد بالقول: نعم الأكراد هم إخوتي. وفي حين يشن العلمانيون والقوميون الأتراك حملة تحريضية صارخة ضد الأكراد بوصفهم إنفصاليين وعملاء لقوى خارجية يعمل حزب العدالة والتنمية من أجل طي صفحة النزاع الدموي والالتفات إلى الهموم الحقيقية للأكراد، وهي بالمناسبة لا تنحصر في المطالب القومية بل هناك القضايا المعاشية والاقتصادية والاجتماعية ومسائل التعليم والصحة والخدمات الأساسية. ويعتبر ترسيخ حكم القانون وإطلاق الباب أمام الحريات هاجساً أساسياً لحزب العدالة. وتحت هذا الهاجس تتم دعوة الناس إلى الاختيار بين السياسة والعنف، بين العمل البرلماني والعمل المسلح. إذ لا يمكن حمل السلاح وممارسة السياسة في البرلمان في وقت واحد. الحزم الذي يتعامل به"حزب العدالة والتنمية"يقتصر على"حزب العمال الكردستاني"الذي يرفض الاستجابة لنداء أردوغان الداعي إلى إلقاء السلاح ونبذ العنف واتباع خيار العمل السلمي البرلماني. يشدد أردوغان على أهمية صوغ خطة تكون البداية لحل المسألة الكردية. ولقد شكل نواب الحزب الذين يتحدرون من أصل كردي ما يشبه ورشة عمل في هذا السبيل. أما الحزب الكردستاني فإنه يعتبر الساسة الكرد الذي يعملون داخل"حزب العدالة والتنمية"خونة. وهو ماانفك يعادي كل حزب كردي آخر. هناك الكثير من الساسة الكرد في تركيا ممن يرون أن الديبلوماسية والسياسة سلاحان ناجعان للوصول إلى الأهداف بشكل أفضل وأسرع من كل أشكال العنف والكفاح المسلح. وهم يدعون إلى ضرورة الفصل بين الحزب العمالي والقضية الكردية. ويعتمد"حزب العدالة والتنمية"السبيل الهادئ، الخالي من التعصب القومي والشوفينية. وهو لا ينجر الى التصرف وفق ردود الفعل الآنية ولا يركب الموجة العاطفية من أجل مكاسب شعبوية. وقال عبدالله غُل إن تركيا تحاول أن تتخلص من حزب العمال الكردستاني من خلال تعميق الديموقراطية لا إضعافها. المفارقة أن"حزب العدالة والتنمية"، الإسلامي، هو أكثر براغماتية وعقلانية وتسامحاً من الأحزاب الموصوفة بالعلمانية. كان المفروض أن يكون هذا الحزب الإسلامي عقائدياً منغلقاً ويكون العلمانيون منفتحين عمليين. العكس هو الصحيح. والسبب يكمن في أن العلمانيين يقدسون إيديولوجية الدولة في حين يرى قادة حزب العدالة أن الواجب يقضي بالتعامل مع البشر ومصالحهم لا مع الإيديولوجيات الجامدة. بالنسبة للقوميين الأتراك فإن الغاية المقدسة هي الحفاظ على الإيديولوجية الكمالية والإبقاء على تركيا ذات القومية الواحدة واللغة الواحدة والثقافة الواحدة. بالنسبة لحزب العدالة والتنمية فإن الغاية هي تأسيس مجتمع تعددي منفتح يتجاوب مع الطموحات القومية والثقافية واللغوية للأكراد. هذا السلوك الحضاري أكسب الحزب احترام الاتحاد الأوروبي كما إنه دفع الإدارة الأميركية إلى أخذ السياسة الناضجة للحكومة التركية على محمل الجد والركون إلى التعاون معها في شأن مواجهة حزب العمال الكردستاني. * كاتب كردي