أطل من نافذة الطائرة. لمح أضواءً متناثرة تُومض، وتختفي لتظهر من جديد، مثل سفن للصيد تتحرك فوق البحر في ظلام الليل. مر الوقت. ازداد تزاحمها كلما اقتربوا من المدينة. تخيل سكانها يتناقشون جالسين في البيوت. تركوا الشوارع والمقاهي خالية فما زالوا يعيشون تحت وطأة الحوادث التي هزت عواميد الصحف وجدران البنك الدولي وقصور الرئاسة وشاشات التلفزة. أمس اندفع ملايين الناس كالطوفان إلى الشوارع احتجاجاً على رفع أسعار السلع التي يستهلكونها كل يوم. تقاربت الأضواء أو شكلت خطوطاً مستقيمة تزحف بينها الكشافات في طوابير، فأدرك أن الطائرة تُحلق فوق قلب المدينة. رأى جناحها كالشبح الغامض يميل مع حركة التفاف كانت تُجريها، وارتفع زئير المحركات. مال بجسمه إلى الأمام كأنه يستعجل الوصول، لكنها ظلت مُحلقة فوق الأضواء، ثم هبطت بالتدريج. بعد قليل أحس بصدمة العجلات على الممر الطويل، بسباقها السريع بين صفين من المصابيح الزرق الصغيرة. الحزام حول خصره يشده إلى الوراء ورؤوس الركاب يراها مرصوصة كأنهم قطيع ينساق إلى مصير مجهول. في أذنيه ترددت الموسيقى خافتة، وتحت ضلوعه أسرع النبض كلما اقتربت الطائرة من مكان النزول. على أرض المطار لمح سيارات تنطلق في مختلف الاتجاهات وناساً ينتظرون، وعصا حمراء تدور كالقوس المضيء ثم تُشير في ثبات فتتقدم الطائرة نحوها ببطء. تنحني كالحيوان الأسطوري، كالوحش المطيع. عيناه تُطلان من الزجاج. الكشاف يوجه ضوءه الباهر هنا وهناك، قلق كأنه يبحث عن شيء في الظلام، ولافتة مضيئة تقول بالإنكليزية"مطار القاهرة الدولي". أمامه وخلفه رؤوس تميل، وأجسام مرهقة بعد السفر الطويل، تفتح عيونها، ثم تقوم لتفتح الدواليب. تُخرج المعاطف، والحقائب، وآلات التصوير. طفلة صغيرة ترمقه من فوق كتف أمها، تُخرج لسانها وتمسح به على شفتيها، تدرس وجه الرجل الذي ما زال جالساً، يتابع بنظراته السائرين في الممر. كأنه ينتظر أن تُفرغ الطائرة حمولتها من البشر. جسمه متوسط الحجم وملامحه هادئة، وحول أذنيه شعر تخللته شعيرات لونها أبيض. خلت الطائرة من ركابها ولم يبق أحد غيره جالساً مكانه. المضيفات يتنقلن في الممر، يجمعن الوسائد والأغطية، ويضعهن في الخزائن. يسمع صوت كعوبهن تدب. اقتربت إحداهن. سألته لماذا لم يهبط إلى صالة الترانزيت مثل غيره، فربما تأخرت الطائرة عن موعد إقلاعها. هز كتفيه، انصرف عنها إلى النظر من النافذة كأنه يُريد أن يثقب الشبورة التي حطت على المطار. تركته واختفت، فغدا وحده غارقاً في الأضواء الخافتة وسط المقاعد. سمع بعض الأصوات تتردد في الخارج، تلاشت بالتدريج ثم عادت ثانياً. يشعر باهتزازات في جسد الطائرة كأنهم يُصلحون شيئاً فيها أو يُحملونها بالأمتعة. يُلصق وجهه بالزجاج، لكنه لا يرى شيئاً خلاله، فالظلام كثيف، والشبورة تجمعت، ومصابيح المطار تبدو كأنها مطفأة لا تُضيء سوى مسافة قصيرة حولها. يلمح بالكاد جسم طائرة قابعة في مكانها، بيضاء أو فضية تلمع في الضوء الخافت وتملأه بإحساس من الرهبة غامض. يشعر بنفسه منعزلاً، منكمشاً في مكانه. يحملق في جوف الطائرة، في جوف الظلال والصمت، وصفوف المقاعد الخالية، كأنه في قبو تحت الأرض، أو في غواصة غارقة تحت سطح البحر، لا علاقة له بالعالم الخارجي، مُنقطع الصلة بالكون من حوله، بالناس، والأشياء لينجو بنفسه، بعيداً من العيون المتربصة به. في أعماقه كان يكره الأماكن المغلقة. عاش فيها طويلاً، واكتوى بكوابيسها. لماذا لم يذهب إلى صالة الترانزيت، إلى فنجان من القهوة، ووجوه الناس من حوله، وكلمات بالعربية يشتاق إليها؟ لكن يجب ألا يُجازف. ربما تعرف إليه مخبر، أو ضابط، أو صحافي يعمل مرشداً، أو أحد ممن يبحثون عن رضاء السلطات ليُحقق به مكسباً. المدينة ثائرة، ورجال يدكون الأبواب في الصمت، لا يُسمع فيه سوى أنفاس النائمين في بيوتهم. كان جالساً في مطار"هيثرو"، ينتظر موعد الصعود إلى الطائرة. فتح الجريدة وأخذ يقرأ. العناوين ما زالت ترقص أمام عينيه. قرأها ثانية وثالثة. أدرك أن طريق العودة أصبح مسدوداً أمامه. كان بعيداً في الأيام الماضية، لكن كلاب الصيد تفقد القدرة على التمييز عندما تلمح ظلال الضحايا تتحرك في الأفق. لن يتركوه أثناء البحث المحموم في الملفات، وحجته لتبرير ما حدث، بتعليقه على شماعة اليسار وعلى الشيوعية ومؤامراتها. أدرك أنه لن يستطيع أن يعود، أنه في لحظة فقد الأرض التي يقف فوقها، سُحبت فجأة من تحته. فقد البناء الذي أقامه طوبة فوق طوبة أثناء حياته. فقد ركنه المفضل في الشرفة، يُطل منه على الجزيرة، وجلسته على مكتبه أمام الورق. فقد كلمات الصداقة وأنوار المقاهي ورائحة الحطب وقبة الجامعة تلمع نحاسية اللون في الشمس الغاربة، فقد فرصة العودة إلى الوطن. في ضربة واحدة تحطمت أحلام راودته في ليالي السفر، فقد خيوط الحرير القوية الناعمة التي أعطت منطقاً لحياته، فقد النسيج الضام يُعطي للجسم والعقل قوامه. الآن لم يعد للزمن وجود، كل ثانية أصبحت كنقاط من المياه تسقط من صنبور صدئ. هوة سحيقة تمتد أمامه، وطريق لا يقود إلى شيء محدد. تملكه خوف الإنسان الذي يقف على حافة هاوية، لم يكن هذا الخوف هو خوف العودة إلى ترحال لا ينتهي، إلى محاولة تخيل الأماكن التي سيصل إليها للمرة الأولى من دون أن يعرف فيها أحداً، إلى شعوره عندما يتركها في ضوء الفجر الشاحب ليذهب إلى غيرها، أو أثناء ساعات الليل في بيت مهجور لا يسمع فيه سوى طنين الحشرات، أو طقطقة الخشب، أو صفير قطار بعيد يشق الظلام. خوفه كانت له أسباب أخرى، أحس فجأة وهو جالس على المقعد يدور بعينيه حول صالة الانتظار بدت له كالقفص، أحس أنه عاجز عن الاستمرار، أن الروح في داخله تنوء تحت الحمل وتنثني، أن جسمه ارتخى، وذهنه أصبح هرماً، أنه لن يستطيع مواصلة المقاومة، أن الرغبة في الاستسلام سيطرت، أن الوهن يتسلل إلى أعماقه ويهمس له: اترك الموت يأخذك إليه، فالظلام يستطيع أن يمتص كل الألم، إن اليأس المطلق هو الراحة الكاملة. تلفت حوله كمن يستيقظ، قام واقفاً، رفع حزام الحقيبة على كتفه وصار الشاب الجالس خلف الحاجز يفحص جوازات السفر. قال له إنه يُريد أن يُعدل في تذكرة السفر، وأن ليست لديه حقائب غير تلك التي يحملها على الكتف، فأدخله من الباب الجانبي. سار على الحزام المتحرك ثم توجه إلى مكتب الخطوط البريطانية في صالة المغادرة. أبلغ الفتاة الشقراء أنه يُريد أن يُكمل رحلته إلى"نيروبي"وألا يتوقف في"القاهرة"، ففحصت الكومبيوتر ثم قالت: يُوجد مكان لك للسفر. نظرت إليه في تساؤل وسألته إن كانت عنده فيزا صالحة؟ سرح ثم قال نعم، تعود أن يُزّور عدداً من الفيزات يلجأ إليها عند الحاجة. لا بأس، فليذهب إلى"نيروبي". كل الأماكن سيان، ابتسم، إنه مواطن عالمي. أعطته التذكرة بعد أن ألصقت عليها ورقة صفراء اللون كتبت عليها حروفاً بالحبر الأسود، تناولت منه الجنيهات الإسترلينية التي أخرجها من المحفظة، سألته: والحقائب؟ فرفع حقيبة اليد أمامها"هذه فقط". ألقت إليها بنظرة زرقاء فاحصة وقالت:"رحلة سعيدة". اجتاز ردهات المطار وهو يعدو بأقصى سرعة عائداً إلى الصالة التي كان ينتظر فيها للصعود إلى الطائرة، وجد المسافرين وقد اصطفوا في طابور. أخرج بطاقة المغادرة وجواز السفر، اجتاز الممر وبحث عن مقعده في الطائرة. ستهبط في"القاهرة"دقيقة ثم تستأنف طيرانها. قلبه يدق. أخذ نفساً عميقاً ومد قدميه على مسند أخرجه من تحت المقعد المنتصب أمامه. أسند جبهته الى زجاج النافذة. يكاد لا يرى شيئاً. الشبورة حطت على المطار بكثافة متزايدة فعجز ضوء الفجر عن اختراقها. يرى شبح سيارة للوقود، ورجالاً يتحركون حولها. مر أمامه جرار يحمل حقائب المسافرين، عين الكشاف القلقة ما زالت تدور في جيبه. جواز للسفر أخضر، على لسانه كلمات ينطقها بلكنة مصرية ورثها عن أجداده، وفي رأسه أحلام عن الوطن، عائد لن يعود، على بعد مسافة تجتازها سيارة الأجرة في 45 دقيقة أو في ساعة على الأكثر تُوجد شقة صغيرة في عمارة كبيرة تطل على المياه الممتدة أمامها. المدة نفسها التي سيقضيها مختبئاً في الطائرة، أمام العمارة شارع عريض يجتاز المدينة من أقصاها إلى أقصاها، دائم الحركة، دائم الحياة، في الربيع تزدهر فوق أشجاره زهور حمر، عندما تسقط على الرصيف تصنع غطاءً قرمزي اللون يلمع في الشمس الغاربة. طنينه البعيد يصل إليهم خافتاً، يصل إليها حيث ترقد، ظهرها مسنود على خشب السرير، وفي يدها ورق، إذا مد يده إليها يستطيع أن يلمس شعرها يسقط حول وجهها، أن يربت على خدها أو ساعدها الذي يُطل من كم الجلباب. كانت تنتظر عودته الليلة. إذا لم يدق الجرس ستُدرك أنه لم يهبط في"القاهرة"، أنه سيكتب إليها رسالة حتى لا يلتقطوا صوته. تتخيله طائراً في السماء، إلى جوارها يرقد الصبي على بطنه يتصفح المجلات، بين الحين والحين ينظر إليها بعينين سوداوين، يُدرك متى ينطق بالسؤال، ومتى يجب أن يصمت، يُدرك أن لا شيء يُضمن في الحياة، أن كل شيء يُمكن أن يُسلب منهما حتى الأب الذي يُحبه. يجلس إلى جوار النافذة. الفرَّاش يُفرغ الطفايات مما فيها من ورق وأعقاب للسجائر. يفحصه في بلادة فيُبعد وجهه، كل مصري عدو محتمل. أُضيئت الأنوار واهتزت الطائرة مع خطوات الصاعدين، وترددت أصواتهم. مروا إلى جواره محملين بالحقائب وأكياس البلاستيك تبرز منها علب المشروب وخراطيش السجائر. يشعر أنه عاش حياته كلها بين لحظة نزولهم ولحظة صعودهم إلى الطائرة. دارت المحركات وامتدت إليه يد تحمل صينية من الحلوى، وابتسامة في العيون ردها بابتسامة. ربط الحزام حول خصره، وانحنى ليُعدل مكان حذائه. انطلقت الطائرة في السماء. تردد نبضها المنتظم وارتعش جسمها. دارت حول المطار دورة واحدة ثم اتجهت جنوباً سائرة نحو الآفاق، وخلفه لمح أضواء المدينة وهي تبتعد.