مرت خمسة عقود على اندلاع أعمال الشغب وحركة العصيان المدني في الولاياتالمتحدة. ويومها، انتشرت الفوضى في نحو 150 مدينة أميركية. ومنذ مطلع السبعينات والى يومنا هذا، لم تشهد المدن الأميركية موجة أعمال شغب كبيرة تشبه تلك التي اندلعت في فرنسا في تشرين الأول أكتوبر 2005. وهذا أمر يبعث على الحيرة. فلماذا لم يؤجج التهميش الاجتماعي والفقر والبطالة والتمييز العراقي والتشرد الاضطرابات المدنية في الولاياتالمتحدة؟ فمعدلات البطالة ارتفعت عما كانت عليه في الستينات في صفوف الافريقيين - الاميركيين أو الاميركيين المتحدرين من أصول افريقية. وواحد من كل ثلاثة شبان سود في سن العشرين الى التاسعة والعشرين، مسجون أو سُرّح من السجن سراحاً مشروطاً. ولم تتدنَ أعداد المشردين الذين يفترشون أزقة المدن الاميركية، ولم تخبُ نسبة الشكاوى من عنف رجال الشرطة. وفي التسعينات، بلغ الفصل العرقي والاثني بين الجماعات الأميركية أعلى معدلاته. وعلى رغم تدني معدلات الفقر في أوساط الأفريقيين الأميركيين، زادت مساحة تجمعات الفقراء في المدن الاميركية، بعدما نزح السكان البيض الى الضواحي، وهجروا المدن. واستقبلت الولاياتالمتحدة، وخصوصاً المدن الاميركية، موجات هجرة آسيوية ولاتينية أميركية، بعد 1980. وخفضت الحكومة الفيديرالية المساعدات المالية المباشرة المخصصة للمدن، وانخفضت القيمة الفعلية لحد الأجور الادنى. وساءت خدمات شبكة الرعاية الاجتماعية. ولكن لماذا لم تفض هذه العوامل الاجتماعية، مجتمعة أو مفردة، لم تخلص الى اضطرابات وحوادث شغب. والحق ان ضعف حركة العصيان المدني في أميركا مرده الى تشابك عدد من العوامل. فسجل اندلاع العصيان المدني حافل في تاريخ المدن الاميركية. ولطالما أفضت محاولات تغيير الحدود الجغرافية المرسومة بين الجماعات الى عصيان مدني. ففي عشرينات القرن الماضي، انتهى سعي الافريقيين - الاميركيين للخروج على قواعد الفصل العرقي بديترويت، الى عصيان مدني. وهذا ما حصل في شيكاغو في الاربعينات. وبعد الحرب العالمية الثانية، هددت أكبر موجة نزوح أفريقية اميركية من الجنوب الاميركي الى الشمال الأميركي، أو ما يعرف ب"الهجرة الكبرى الافريقية الاميركية"، الحدود الاثنية بين الجماعات في مدن معظم سكانها من البيض. ولطالما توسل البيض العنف لحماية الحدود الفاصلة بينهم وبين الوافدين السود. ويوم اندلعت أعمال الشغب في الستينات، امتحنت الحدود الفاصلة بين الجماعات تحديات قاسية. فأعداد كبيرة من الافريقيين - الاميركيين انتقلوا الى مدن غالبية سكانها بيض. وفي السنوات التي تلت"الهجرة الكبرى"، نزح السكان البيض عن مراكز المدن الى الضواحي، وأعادوا رسم الحدود الفاصلة بينهم وبين السود. وقبيل 2001، بلغ عدد السكان البيض في مراكز المدن 21 في المئة. وأسهمت حركة نزوح البيض من مدن كانوا فيها، الى وقت كبير، الاغلبية، في موازنة كفتي القوى المدينية بين الجماعات. وتخلى البيض عن نفوذهم السياسي وسلطاتهم في المدن التي غادروها، وحل أفريقيون - أميركيون محلهم. واحتفظ البيض بشطر من نفوذهم في الاوساط التجارية والمالية وفي بعض القطاعات العقارية في قسم من وسط المدينة المرمم حديثاً. وبين 1970 و2001، ارتفع عدد المسؤولين الافريقيين -الاميركيين في المقاطعات الاميركية 960 في المئة، و619 في المئة في البلديات. وفي الثمانينات، بعثت موجات الهجرة الكبيرة من أميركا اللاتينية وآسيا نزاعات حدودية بين الجماعات في المدن الاميركية، وخصوصاً في المدن ? المعابر التي تستقبل جموع المهاجرين. وأعمال الشغب بجنوب وسط لوس أنجليس، في 1992، هي أول النزاعات الحدودية بين الجماعات منذ الستينات. ولكن نيران الشغب في لوس أنجليس لم تمتد الى المدن الاميركية. ومنذ الستينات والى يومنا هذا، لم يؤد حرمان جماعة من الاميركيين من امتيازات المواطنية، مثل التعويضات، وفرص العمل، والمساعدات الاجتماعية، والمساكن الجماعية، والاستهلاك، الى عصيان مدني. ومرد هذا النوع من العصيان الى العوامل التالية: * دمج نخبة الافريقيين الاميركيين في النسيج الاجتماعي الاوسع. ففي العقود الماضية، شرعت أبواب التعليم النوعي والوظائف والمداخيل العالية أمام شريحة لا يستهان بها من الافريقيين -الاميركيين ومن الاقليات الاثنية الأخرى. وترتب على هذا الدمج النخبوي محاكاة بناء الافارقة - الاميركيين الاجتماعي نظيره في صفوف البيض الاميركيين. وعلى خلاف البيض، لا تزال الطبقة الوسطى الافريقية - الاميركية صغيرة، ولا يزال عدد الاغنياء السود ضئيلاً. ورعى القطاع العام والقطاع الخاص عملية الدمج هذه. ولا شك في ان الدمج النخبوي هذا لم يسهم اسهاماً كبيراً في الحراك الاجتماعي. ففرص الارتقاء الاجتماعي محدودة. وأبواب مهن الكفاءة العالية، مثل المحاماة والطب وادارة كبرى الشركات، بقيت موصدة بوجه الافارقة - الاميركيين. وشريحة كبيرة من الافارقة الاميركيين يعملون في قطاع الخدمات. ولكن الحراك الاجتماعي المحدود قسّم جماعات الافارقة الاميركيين الى طبقات، وبعث في صفوف الجماعات فروقاً اجتماعية وجنسية. فتفوقت النساء الافريقيات - الاميركيات على الرجال من أبناء جلدتهن، وحظين بفرص ترقٍ اجتماعي أكبر. * اصلاحات حكومية صورية. وهذا النوع من الاصلاحات يسهم في تنفيس الاحتقان الشعبي، والحؤول دون نشوب عصيان مدني. فعلى سبيل المثال، وعدت السلطات، غداة حوادث جنوب وسط لوس أنجليس في 1992، الناس بإعادة اعمار هذا الجزء من المدينة. ولكنها أخلت بوعدها، واقتصرت على خطوات عرضية. ونجم عن الاصلاحات الصورية، والدمج النخبوي، ونزوح البيض عن قلب المدن حكم غير مباشر هو حكم البيض. ويشبه هذا النوع من الحكم، تعيين السلطة الاستعمارية البريطانية مسؤولين محليين لتسيير الاعمال في مستعمرتها. فالبيض الاميركيون احتفظوا بمقاليد الحكم في المدن. ونفوذهم في أوساط المسؤولين السياسيين الممثلين للاقليات كبير، شأن نفوذهم في أوساط الموظفين البيروقراطيين في القطاع العام. وفي حال نشوب عصيان مدني، لا مناص من مواجهة الافريقيين - الاميركيين مواجهة أبناء جماعتهم الذين يشغلون مناصب رسمية ويعملون في الشرطة، عوض البيض النافذين وأصحاب السلطة الحقيقية. وفي الستينات اكتشفت الشركات الاميركية زبائن جدداً، هم المستهلكون السود الحديثو العهد بالسكن المديني والتمدين. وسارعت الشركات الى ترويج سلعها في أوساط الافريقيين -الاميركيين. وولج السود الى مواطنية جمهورية الاستهلاك الاميركية، واشتروا السلع ورموز الرفاهية. وبلغت قيمة شراء الاجهزة الالكترونية في أوساط الافارقة - الاميركيين 2،5 بليون دولار، في 1993. فانخرط الافارقة الاميركيون في المجتمع الاميركي الاوسع. كف نشوء قومية"وطنية"سوداء، أو ارساء نظام اقتصادي اشتراكي، عن كفالة العدالة الاقتصادية في نظر المواطنين. عن مايكل بي كاتز استاذ التاريخ بجامعة بنسلفينيا، "ديسنت" الاميركية، صيف 2007