قدرة المغاربة على سرعة تعلم اللغات وإجادتها معروفة. موهبة نفتخر بها، وتيسر لنا الاندماج والتواصل... شخصياً، تزعجني هذه الموهبة عندما تنسحب على إتقان اللهجات أيضاً. نحن"نتمصرن"حتى ليحسبنا الأشقاء المصريون شربنا مياه النيل قبلهم, فليس سراً أن أجيالاً عربية رضعت الدراما المصرية خالصة بلا منافس، وهي تقبل اليوم على إنتاجات من بلدان عربية أخرى باتت تغرق السوق المغاربي. بعد نجاحنا الباهر مع اللهجة المصرية، بل وحتى الصعيدية التي يحبها المغاربة كثيراً، أصبحنا نرطن اليوم بالخليجي،"إيشي كويتي"وپ"إيشي"سعودي"... وبين العهدين، إثر تراجع الدراما المصرية أمام الاختراق السوري للأسواق العربية، انطلق المغاربة من دون هوادة يتداولون اللهجة السورية التي وصلتهم محمولة على السيوف والبنادق بين ثنايا التراث والتاريخ. وعلى نحو أسرع، أهلهم تقارب اللهجات الشامية للسفر اللغوي، فپ"تلبننوا"مع موجة الإنتاجات اللبنانية وبرامج المنوعات. ترانا"نتلبنن"تارة، وپ"نتمصرن"أخرى"، ونتخلجن"بحسب جنسية محدثنا، سواء زارنا هو أو نزلنا ضيوفاً عليه. نتحدث مع الآخرين بلهجاتهم ونهجر لهجتنا عند أول مطب. لانزعاجي هذا، قررت وأنا أعتزم السفر إلى الأردن بداية الشهر الجاري ألا"أتأردن"أو"أتشامى"، بعدما سبق لي أن اختبرت نفسي في رحلات سابقة إلى مصر والكويت. وبمنطق بدا لي سليماً ومقنعاً حينها، استقريت على التواصل باللغة العربية الفصحى التي توحد هويتنا من الخليج إلى المحيط، خصوصاً أن السفر كان لأجل دورة تدريب صحافيين من تسع دول عربية، وأسبوع واحد ليس كافياً لپ"نشر"اللهجة المغربية في صفوف الأشقاء العرب. انطلقت في مهمتي"القومية"بحماسة، أحادث زملائي بلغة عربية فصيحة، وأكسر الحدود والحواجز الثقافية واللغوية، معتقدة أن الفصحى أقرب إليهم، هم الذين يبهروننا بها نطقاً وأداء في إنتاجاتهم الإعلامية المختلفة. ويبدو أن الزملاء تحملوا مني"فصحاي"أثناء حصص التدريب، ولكن بعضهم عجز أن يكتم"غيظه"خارجها بينما تجمعنا لقاءات الحياة العادية. فكانت تعليقات ومناوشات من نوع"لماذا تتكلمين الفصحى؟"، وأجيب بحسب جنسية مخاطبي أو مخاطبتي"لماذا أتكلم بالمصري أو السوري؟"، وأواجه بما خلته المشكلة"ولماذا لا تتكلمين بالمغربي؟"، فيكون ردي"لأنكم تجزمون مسبقاً بعدم الفهم!". زميلتي المغربية التي رافقتني في التدريب وفرت على نفسها التعليقات، مع أنها كانت تجد صعوبة في الانتقال من لهجة إلى أخرى بحسب المتحدثين. كانت تستنجد بي أحياناً، وأخذلها، فتختلط عليها اللهجات المشرقية والمغربية في الأحاديث التي يلتئم فيها شمل الجنسيات العربية. ومع ذلك، وفرت مواطنتي على نفسها"غيظ"المستثقلين للعربية الفصحى، كما وفرت على نفسي"غضب"المستصعبين للعامية المغربية. ما حصل في ما بعد مضحك، إذ ذابت المسافات بين بعض الزملاء والزميلات. اكتشفت أن عربيتي ليست لغة الضاد، فقد كنت أنطق بها، بحسب بعض الآراء، على طريقة الأجانب الذين تعلموا لتوهم الفصحى. كانت"صدمة"لغوية وثقافية فهمتها بعد حين. فبدلاً من أن أنال الثناء لأنني كنت ألتزم بقواعد اللغة من صرف ونحو وبلاغة، كانت إحدى زميلاتي المصريات تقلدني للتندر، فتذكرت مشاهد الدراما والسينما المصرية المنتجة بالعامية المصرية يقحم فيها الممثلون عبارات باللغة العربية الفصحى للدعابة والضحك, كمشهد مسرحية عادل إمام"الواد سيد الشغال"أثناء عقد القران، والسخرية أحياناً في الانتاجات الأخيرة التي تعالج قضية الإرهاب والتطرف الديني. كنت وزميلتي الوحيدتين من المغرب العربي، اللتين عانتا في التواصل مع الزملاء العرب. جربنا العامية المغربية لفرض الأمر الواقع، فتأكد عدم جدوى المحاولة. كلامنا خليط من اللغات واللهجات، أهمها العربية والأمازيغية، الى جانب الفرنسية والإسبانية. لكن ليس العيب في اللهجة، بل بعض العيب، بحسب ما تحصل لدي من محاولات، يكمن في عدم استعداد الآخرين لبذل مجهود من أجل الفهم. المغاربة لم يشربوا ماء النيل، ولكنهم بذلوا مجهوداً لكي يفهموا أن"الخنزيرة"تعني السيارة، بل وأن"العربية"هي سيارة أيضاً يركبها المصريون وتجري بهم على عجلات. صحيح أن اللهجات المشرقية وصلت إلينا عبر الاستهلاك الإعلامي، وصحيح أن الإنتاج الإعلامي المغربي لم يعرف طريقه إلى المشرق، بسبب عائق اللهجة، ولكن أساساً بسبب ضعف صناعته. توجد اليوم محاولات اختراق، وتفكير جدي في المغرب بإيجاد طريق وسط يقرب ما تباعد بين المشرق والمغرب لغوياً وثقافياً، عبر نوع من العامية المغربية المعربة، هناك نتائج وبوادر مشجعة، أفلام وأشرطة تلفزيونية وبرامج تحوز على جوائز عربية كان المغرب فيها أكبر غائب في الماضي. لعلنا على الطريق، فقد يساعد هذا التحول نحو السوق الإعلامية المشرقية على أن يفتح الطريق كي يبذل"الأشقاء العرب"جهداً أكبر في التعرف الى عاميتنا كما هي.