لا ينحصر الإيقاع في تقنية الوزن، الذي تعتمده قصيدتا العمود والتفعيلة، بل يتجاوزها إلى قصيدة النثر التي تخلّت عن موسيقى الوزن، واحتفظت بمخزون إيقاعي ثري، يرتبط ارتباطاً جدلياً بعنصر الزّمن في ديمومته واستمراره، وتعاقب السّكون والحركة في دائرة النص والكون معاً. فالإيقاع في النص هو بمثابة القلب للقالب، والرّوح للجسد. بل إنّ انتظام الألوان وتدرّجها، وتراسل الحواس وتناغمها، ونبرة البياض بين الهوامش، وسوى ذلك، يمكن أن تدخل في صلب الإيقاع وجوهره. إن أية لحظة تماس أو وقوع على خطّ الزّمن هي لحظة إيقاعية، كما يشير الناقد علوي الهاشمي في كتابه"فلسفة الإيقاع في الشعر العربي"المؤسسة العربية للدراسات والنشر. والإيقاع هنا يعني التدفق، أو الانسياب، الذي يتكئ على الشّعور أو حركية الذات المبدعة، ولا ينحصر البتة بنظام التفعيلة في مفهومه العروضي المتداول. وعلى هذا الأساس، يمكن الحديث عن أنماط مختلفة من الإيقاع، تتجلّى لغوياً وموسيقياً ولونياً وصوتياً ومعمارياً، في نسيج النص الشعري. وإذا كان الإيقاع، تاريخياً، مدركاً بالأذن، عبر ارتباطه الخارجي بموسيقى الوزن، فإنه بات يشمل البصر أيضاً، من خلال امتداد الكلام وتقطيعه على الصفحة البيضاء، عاكساً ترجيعات الذات، وذبذبات الشعور، وتموّجات العاطفة. ويرى الهاشمي أن خطّ الوزن أفقي، يمتدّ من أول البيت أو السطر الشعري، وينتهي بنهايته، أي بحرف الرَوي الذي يمثّل إيقاع القافية. أما خطّ الإيقاع فعمودي يسقط من أعلى النص الشعري حتى أسفله، متقاطعاً مع كل خطوطه الأفقية في نقطة ارتكاز محورية. وإذا كان الوزن مرئياً، مسموعاً، فإنّ الإيقاع يتّسم بالتواري أو التخفّي، وهو عنصر صامت لا يتمظهر إلا من خلال أثره في بنيان النص، حيث أنه لا يبين إلا في تشكّله الصّوتي الصريح، فضلاً عن أنه يتسم بالشمولية من حيث تشتّته في بقية خطوط القصيدة وعناصرها، كما أنّه يخضع لعنصر الزمن بتقسيمه إلى وحدات وعناصر متساوية أو متآلفة، فضلاً عن أنه يخضع لقانون المادة خضوع الزمان للمكان والروح للجسد. ويرصد الناقد الانتقال التدريجي للإيقاع من الخارج إلى الداخل، ومن سطح النص إلى عمقه، أي رحلته المفتوحة من المتجلّي إلى الخفي، ومن قالب الوزن إلى قلب الإيقاع الذائب في كلّ مكونات القصيدة، من صور ورموز ورؤى وأحلام ودلالات. يستهل الهاشمي كتابه بمقدمة مكثفة للناقد كمال أبو ديب الذي يوافق الهاشمي رؤيته المحورية للإيقاع بوصفه سراً من أسرار الكون، إذ يشير إلى أن الجديد في طرح الهاشمي هو لجوءه إلى التأمل الفلسفي في قراءته للإيقاع، كاشفاً عن بعدين مختلفين له أحدهما ميتافيزيقي والآخر فيزيائي، ويصف ذلك بالتمييز"الفذّ في فضاء الدراسات العربية"، متمنياً، مع ذلك، أن يقوم الهاشمي في مرحلة لاحقة بإدراج بعد آخر من أبعاد الإيقاع، وهو النبر بأنماطه المختلفة، وهذا ما غاب عن هذه الدراسة. تلي هذه المقدّمة مقدمتان مكثفتان للمؤلف نفسه، في الأولى يشرح البعد الفلسفي للإيقاع وارتباطه بمفهوم الديمومة، ويشبّهه بالنهر الخالد الذي لا منبع له ولا مصب، وفي الثانية يركّز على البعد المنهجي للإيقاع وارتباطه بطبقات النص وبناه المضمونية واللغوية والإيقاعية، وفقاً لأنماط نصّية تتحدّد هويتها بحركة الذات وعلاقتها بالمحيط، وهي ذات أقانيم ثلاثة: اتباعية وغنائية ودرامية. بعد ذلك، ينتقل الهاشمي في الفصل الأول"جدلية السكون والحركة"إلى الحديث عن المتخيل الشعري بإطلاق، الذي يرى فيه مسرحاً خصباً لحركة دؤوب بين الخفي والمتجلي من البيئة الإيقاعية الحية، ويخلص للقول إنّ الإيقاع يعني"انتظام النص الشعري بجميع أجزائه في سياق كلّي، محسوس ومدرك"، وله مستويان مستتر وباطن، والمستتر أشد تعقيداً بسبب تشكّله في الخفاء، أي في لا وعي المبدع، وكينونته الوجودية الغامضة. والانتظام هنا، بحسب الهاشمي، يعني علاقات التكرار والمزاوجة والمفارقة والتوازي والتداخل والتنسيق والتآلف والتجانس داخل النص. ويرى الناقد أنه يمكن للإيقاع، بمستوييه، الظاهري والخفي، أن يقوم بدور الجناحين للنص، ما يغني توهّجه الداخلي، لتصبح القصيدة، بحسب تعبير أوكتافيو باث، بمثابة"المحارة التي تصدح فيها موسيقى العالم، وما القوافي والأوزان إلا تردّدات وأصداء لهذه الهارمونيا الكونية". ويعمّق الناقد رؤيته الفلسفية للإيقاع عبر الإيحاء بأنه يولد من تصادم الزمان المتحرّك الممتدّ كالخط، بالأبدية الساكنة المغلقة كالدائرة. من هنا تكون البنية الإيقاعية تعبيراً مجسّداً لذلك التفاعل الحي بين الداخل والخارج، الذات والموضوع، وربما الزّمان والأبدية. ويلمّح الناقد إلى أن الإيقاع اختلف باختلاف النمط الشعري الذي تجسّد فيه، ففي القصيدة الموزونة والمقفّاة، يكون ظاهراً، معلناً، وفي قصيدة التفعلية، يميل قليلاً عن خطه الأفقي الممتدّ، بعدما انفراط حبّات العقد التفعيلة، وفي قصيدة النثر يتمّ الاستغناء عنه صوتياً، لكنه يظلّ ثاوياً في قيعان النص، مبعثراً إلى شظايا ونوى لحنية وموسيقية ونغمية في نسيجه العام. ويستنتج الهاشمي بأنه بقصيدة النثر تكون البنية الإيقاعية الخارجية انفجرت وتبعثر نظامها وانتفى قانونها إلى الأبد. هنا يصير الإيقاع الداخلي للقصيدة أكثر تعقيداً وإشكالية، تعززه قيم التوتر والتداعي، وتصقله حركة المعاني في بعدها الدلالي والمجازي، والصراع الجدلي المحتدم بين العمق والسطح، السّاكن والمتحرّك، الآني والفاني. في الفصل الثاني"النص الشعري الجديد في أبعاده التواصلية إيقاعياً"، ينقل الناقد خلاصة واحدة من تجاربه الشخصية، أثناء حضوره مهرجان الشعر العربي في القاهرة عام 1993، حيث يطرح إشكالية انتقال قصيدة النثر من حيز النشر والقراءة الصامتة إلى حيز الإنشاد على المنابر، وهذا لا يعمل لمصلحتها، لأن القارئ العربي لم يتحرر بعد من آليات التلقي التقليدية التي تحكم القصيدة الموزونة، وهذا سرّ صعوبة التواصل معها. أما في الفصل الثالث"في مسألة الإيقاع الشعري"فيستكمل الناقد رصده للظاهرة الإيقاعية ووظائفها، ويقدم قراءة تفكيكية معمّقة لبيت امرئ القيس الشهير:"مكرّ مفرّ مقبلٍ مدبرٍ معاً/ كجلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من عَل"، ويرى أن الإيقاع الخارجي في هذا البيت واضح وجلي، ينبثق من تفعيلات البحر الطويل وقافية اللام، في حين أن مسألة الإيقاع الداخلي التي يختزنها تبدو أكثر تعقيداً، وأكثر خفاءً وتشظيّاً في نسيج البيت، وعلى جميع مستوياته، اللغوية والدلالية، التركيبية والتصويرية. فالإيقاع الداخلي هنا أشدّ وأمضى بسبب ما يتحلّى به البيت من قوانين الاتساق والتكرار والتقابل والتقرير، التي تعكس في مستواها الإيقاعي المضمر، حركة الفرس وانطلاقها. ويطرح الهاشمي في هذا الفصل فكرة إمكانية تأسيس علم جديد للإيقاع العربي، انطلاقاً من علمي اللغة والموسيقى، وهذا يتطلب تشكيل فريق عمل متكامل يخضع في أدائه إلى توجيه منهجي دقيق، يتسلّح برؤية حداثية قادرة على تجديد المصطلح النقدي، ما يساهم في إضاءة علاقة الإيقاع بالمعنى. وهنا يختم الناقد كتابه بفصل رابع وأخير يحمل سؤالاً:"كيف يبني شاعر الظل عالمه الشعري إيقاعياً؟"، وهو عبارة عن دراسة إيقاعية ونقدية مفصّلة في شعر الشاعر السعودي علي بافقيه، وهنا يخلص الناقد للقول إن مهارات بافقيه في توظيف الإيقاع الداخلي جعلته يرى الشعر انعكاساً للفكر، والمعنى ترجمة جمالية رفيعة لعلاقة البيان بالإيقاع. إن الهاجس المحوري في قراءة الهاشمي يتركّز على المعنى الفلسفي للبنية الإيقاعية في النص الشعري. أما بنية المضمون في النص فتعالج الفكر والعاطفة معاً، وطيفاً واسعاً من النزعات الداخلية كالخوف والشك والحب والكراهية والحزن، وسوى ذلك، في حين أن البنية اللغوية تعالج علاقة الدوال بالمدلولات، مبرزةً علاقة الحقيقة بالمجاز. أما بنية الإيقاع فتنقسم إلى قسمين: خارجي وداخلي. أما الخارجي فيتعلّق بموسيقى الوزن المتكوّن من البحور العروضية، وهذا مرتبط بقانون الحركة والسكون، أما الداخلي فمرتبط بالأول، ويمثل امتداداً له، وإن لم يكن هو بعينه، إذ"يحمل أصداء قوافيه الغائبة، ويرجّع شبحَ مقاطعه ووحداته الموسيقية المتناثرة". ويستشهد الناقد بمقولة الباحثة إليزابيث درو إذ تقول إن الإيقاع يعني التدفق، أو الانسياب، وهذا يعتمد على المعنى أكثر مما يعتمد على الوزن. ويشير الناقد إلى أنّ للعاطفة في بنية المضمون إيقاعاً خاصاً، يزاوج بين الرغبة والرهبة، الحلم والتذكّر، وكأنّ تقابل الأضداد، فكرياً وعاطفياً، ما هو إلا انعكاس لآلية عمل الإيقاع وتشكّله في النص. ولفهم أعمق لطبيعة الإيقاع وتغلغله في نسيج النص، وتباينه واختلافه من نص إلى آخر، يقسّم الهاشمي النصوص إلى ثلاثة نماذج، في ضوء علاقة كل نص بفعالية الذاكرة التي تسنده. فثمة النص الاتباعي الذي تكون فيه علاقة الذات بمحيطها العام رتيبة مستقرة ثابتة، تنتج موقفاً تفسيرياً، بارداً من العالم. وثمة النص الإبداعي الغنائي الذي تتحرك فيه الذات المبدعة ضد حركة المحيط العام، ومن خصائصه الاحتفال الواضح بالذات، والتغني بأشواقها، وهو نص ذاتي غايته كسر المحيط واختراقه. وثمة النص الدرامي الذي تخترق فيه الذات محيطها في أكثر من نقطة، بفضل لجوئها إلى معطيات أسلوبية عدة، مثل تنوع الأصوات، وتداخل الحواس، وتوظيف ظواهر أسلوبية كالتضاد والمفارقة، عبر التجسيد والتجسيم والتشخيص. في هذه الأنماط الثلاثة، يتشكل الإيقاع بطرق ودرجات مختلفة، ففي الاتباعي يكون صوتياً واضحاً، وفي الذاتي مرئياً تارةً، خافتاً أخرى، وفي الدرامي مستتراً، متعدّداً، وطيفياً. إنّ دراسة الهاشمي المهمة تضيء منطقة معتمة في حقل الدراسات الشعرية، على رغم الإسهامات المهمة التي قدمها نقاد كبار أمثال شكري عياد في كتابه"موسيقى الشعر العربي"وكمال أبو ديب في كتابه"في البنية الإيقاعية للشعر العربي". وإذا كان محيي الدين ابن عربي يقول:"السماعُ إذا لم يُوجِد في الإيقاع غيرَ الإيقاع، لا يعوّلُ عليه"، فإنّ رهان القصيدة الحديثة يكمن في قدرتها على خرق الحجب اللغوية والدلالية والمجازية والعروضية، والإصغاء إلى ما يتجاوز الإيقاع ويتخطّاه، عبر القبض على تلك الجذوة المضيئة، التي تعكسُ ارتعاش الروح داخل محارة النص، والتي يمثل فيها الإيقاع ذاك السرّ البعيد الذي تترنّم فيه النفس الشاعرة، في لحظة فرحها وانكسارها، ديمومتها وفنائها.