استأثرت الأوضاع السياسية في تركيا باهتمام كبير طوال الأشهر الماضية، بدءاً بالأزمة التي مهدت للانتخابات التشريعية المبكرة، والتي صورت في أحد مستوياتها على إنها تجسيد للصراع الطويل الأمد بين العلمانية والإسلام السياسي. ولقد ترافقت وتداخلت هذه الفعالية السياسية والفكرية مع حضور كثيف ظاهري وباطني لفعل الجيش ودوره الأساسي على الساحة. إن واقع المشهد السياسي في تركيا ما زال في خطه العام استمراراً لأزمة الهوية، هوية الدولة التي قامت في ظروف صعبة وملتبسة. وهي أزمة ما زالت تتفاقم وتنبع من سوء التأسيس للعلاقة بين الدولة والمجتمع منذ إعلان الجمهورية قبل أكثر من ثمانين عاما. إذ لا يخفى على المطلع على تاريخ نشوء الجمهورية التركية أنها جاءت كنتاج للمقايضات التي تمت بين الدول المنتصرة وتلك المنهزمة في الحرب العالمية الأولى، وكان لشروط قيام تركيا الجمهورية ولعوامل تأسيسها الأيديولوجية والسياسية دور رئيس لرسم نموذجها المسبق، بعيدا عن ثقافة ورغبة غالبية سكان تركيا في حينها. فالدول الغربية المنتصرة في الحرب الأولى أرادت تشكيل دولة تركيا الحديثة في آسيا الصغرى كنموذج جديد، وصيغة مقترحة لعموم شعوب المشرق يتحقق من خلاله أكبر قطيعة بنيوية ممكنة مع السلطنة العثمانية التي قامت الجمهورية على أنقاضها واستولدت بسرعة من أحشائها"المريضة". وكان الهدف من خلال هذه القطيعة المرتقبة مع السلطنة تحقيق قطيعة مع مجمل التراث الإمبراطوري الديني العربي الإسلامي، ومع كل ما قبله من إمبراطوريات المشرق. من جانب آخر تم تجريب انشاء دولة حديثة علمانية/ قومية على أسس دستورية لأول مرة في تاريخ الشرق الأدنى، حيث قامت الجمهورية التركية بجهود اوروبية وأميركية حثيثة مع دعم واضح من السلطة البلشفية في روسيا، التي كانت تعتبر الجمهورية حالة تقدمية قياساً مع السلطنة العثمانية التي ورثتها. لكن المجتمع في آسيا الصغرى والأناضول لم يكون مهيأ لهذه النقلة السريعة ولم يمهد للجمهورية القومية - العلمانية بأي نشاط أو فعاليات ثقافية وسياسية، لتعزيز فهم طبيعة العلمانية. بل على العكس تماما جاء مجمل النشاط المعارض للسلطنة العثمانية نشاطاً إسلامياً إصلاحياً دستورياً وخاصة في اسطنبول العاصمة، وكانت تلك القوى والحركات تهدف الى تأسيس دولة دستورية إسلامية اتحادية على أنقاض السلطنة، وما حدث أن هذا الاتجاه الإصلاحي لم يجد الدعم بل استعيض عنه بالجمهورية القومية العلمانية، التي بدت مغلقة ومنجزة مع بداية إعلانها. ونظراً لغياب الحامل الاجتماعي الواسع والمؤهل لتقبل أيديولوجيا الجمهورية من جهة، وسرعة فبركتها علمانياً من جهة أخرى، أوكلت إلى العسكر مهمة حمايتها، ورشح رجل عسكري مصطفى كمال أتاتورك قائداً ومؤسساً لها وبالتالي بطلاً للجمهورية والأمة، حيث ما زال تمجيده مستمرا علمانياً وربما شعبياً. الجمهورية التركية مطلع القرن العشرين لم تكن ثمرة مقايضات حرب وتوزع جديد للقوى والمصالح الكولونيالية فحسب، وإنما كان منتجاً أيديولوجياً جديدا تم تسويقه إلى الشرق الإسلامي. وأدرك قادتها منذ البدء أن المبالغة في علمانيتها وتغريبها هي أول هدية ووثيقة ولاء للغرب. لقد تطورت الجمهورية في كنف السياسات العسكرية ومناخات الحرب الباردة، وفي ظل تعويم القيم العسكرية المتوارثة، فكان لسطوة عقل العسكر ودورهم الفاعل، وكذلك لبنية الدولة القومية المؤسس على نفي التنوع القومي والديني، مفاعليها وتأثيرها الأول في إعادة صياغة نموذج الدولة الفولاذية المغلقة. فتمت محاربة اليونان وتهشيم وجودهم الاجتماعي والثقافي في المناطق الغربية والساحلية، كما تم إنهاء المسألة الأرمنية، واستمرت عمليات قمع الحركات الاستقلالية الكردية بقسوة بالغة، فشيدت الجمهورية - النموذج بنيانها على حساب إلغاء كل أشكال التنوع. وتطلب ذلك بالضرورة تضييق الحريات، وبالتالي لم يلقح جنين الدولة بأي بذرة من بذور الليبرالية السياسية والاجتماعية والفكرية. إن رعب وخوف القوميين الأتراك والعسكريين منهم على وجه الخصوص من احتمال انكماش الجمهورية وتفتتها أدى بهم إلى المبالغة في استخدام العنف وقمع نزعات الشعوب والأديان الأخرى للتعبير عن نفسها، وانعكس ذلك على الحركات العمالية والمنظمات النقابية والاجتماعية، فحكم على الكتاب والقادة الشيوعيين بالإعدام، إضافة إلى الإسلاميين المتنورين أمثال سعيد النورسي. لقد عُلّبت تركيا طويلا في قفص الناتو وتحت حكم العسكر الفعلي وحفظت دون تطور حتى وصلت منهكة إلى أواخر القرن العشرين، وباتت حياتها السياسية والفكرية ذات طابع استعراضي ممسرح. وكتحصيل حاصل أعادت الجمهورية بناء استبدادها وديموقراطيتها الشكلية وصولاً إلى ثبات وتكلس شكل الدولة القومية - الاقصائية المغلقة والمنجزة ضمن تصور نهائي للدولة - الأمة المتجانسة قسريا. فعلمانية تركيا وديموقراطيتها طوال القرن العشرين كانتا منفصلتين عن الحريات وتستندان إلى مسلمات وثنائيات جاهزة: أن تكون تركياً أو مواطنا تركياً، أو أن تكون مسلما أو ذا انتماء إسلامي. وظل الحظر الثقافي وضبط الأفكار والانغلاق سمة سياستها الرسمية. ولم تحقق الدولة قفزة في مجال الحريات وبناء المؤسسات الحديثة الخالية من العقد الأيديولوجية والتاريخية. رافق ذلك ركود اقتصادي طوال العقود الستة الأولى من تاريخ الجمهورية، وأخيرا اختزلت علمانية الدولة في التغني بالعرق التركي والمظاهر والشكليات وعبادة شخصية عسكرية تم اصطناعها وتعظيمها دون مبررات موضوعية، وتم استفزاز جماهير المحافظين وأوساط المجتمع التقليدي بمظاهر التبرج والنمط الاستهلاكي الأوروبي. لم تكن علمانية تركيا سوى شبكة علائق هشة مؤلفة من بعض القوانين والأفكار المجتزأة والمستبعدة من شرطها التاريخي ومناخها الاجتماعي وفضاء الحريات العامة، فكان كل ذلك مدخلاً لظهور وتنامي القوى الإسلامية المعاصرة كمؤشر على فشل العلمانية ذات الصبغة التركية، وكذلك إثبات لفشل سياسات الطبقات الحاكمة التركية وسعيها لجعل تركيا دولة متجانسة ظاهريا عن طريق إلغاء الثقافات القومية. وفي المحصلة فشلت تركيا في أن تقدم نفسها دولة تطابق أمة، وترتكز على أسس القوانين المدنية وحق المواطنة. واليوم نحن أمام فشل تجربة محددة، حيث يمكن إحالة الفشل أساسا إلى عدم اقتران العلمانية الشكلانية التركية بالليبرالية العضوية، أي العلمانية المرتبطة بالحريات العامة وثقافة صيانة حقوق الإنسان والشعوب كشرط أول لتفتح بنية الدولة وتطور الوعي الاجتماعي لطبقاتها ونخبها للمساهمة في الخروج من عقلية القرون الوسطى الاقصائية. ونتائج الانتخابات الأخيرة التي فازت بها القوى الإسلامية وحصلت على حوالى نصف أصوات الناخبين تؤكد من جديد أن تركيا المعاصرة لم تخرج من أزمتها التاريخية أزمة التأسيس وإشكالية التطور. ففي الوقت الذي كانت الاستعدادات مستمرة للانتخابات لم تركز البرامج السياسية على ما هو خدمي بقدر ما ركزت على ما هو إيديولوجي. وزايد الجميع على هوية تركيا ووحدتها، على صلابتها وثقافتها الاقصائية المتسترة برداء العلمنة. وعلى ما يبدو أدت هذه الدعوات والإعلانات الإيديولوجية وظيفتها، وقد استكمل انتخاب غول رئيسا للجمهورية اللون الأيديولوجي الجديد. فالبلاد في طريقها لترسيم نظام سياسي بصبغة ولون إسلاميين. ولا يمكن فهم تسلم التيار الإسلامي مقاليد الحكم إلا كنتاج لتفاعل السياسات الإقليمية والدولية وانعكاسها على التوازن السياسي داخل تركيا. لكن يبقى أن إقامة نموذج جديد لدول المنطقة، انطلاقاً من تجربة تركيا، إنما تزخر بالدلالات والمخاطر في آن تبعاً للمسار الذي تم استعراضه قبلاً. وما لا يجوز علمانياً لن يجوز إسلامياً. فعلى الرغم من الترحيب والتهليل الكبير بالتجربة الجديدة ل"العدالة والتنمية"، وهو تهليل أوروبي وأميركي وعربي وإسلامي وكردي، فان على الجميع أن يتنبه إلى أن نمذجة تركيا إسلامياً اليوم تنطوي على مخاطر أكبر من تلك التي رافقت نمذجتها السابقة علمانيا، لأنها ما زالت تحتفظ بنفس عوامل الفشل السابقة، وبخاصة احتفاظها بأغلب عاهات النظام الاستبدادي الشرقي وسلبيات البنية العسكرية الخفية الحامية للدولة وثقافتها القومية -الاقصائية المتعالية. فالدولة أنتجت شموليتها الدولتية وبلورتها منذ عقود، وهي، بمعنى ما، لا تختلف كثيرا عن الأنظمة الشمولية ذات الحزب الواحد أو تلك التي تفتقر حتى إلى هذا الحزب الواحد. وفي الحالات جميعاً، ينبغي عدم تحميل هذه التجربة السياسية - الانتخابية أكثر مما تتحمل. فتقديمها بوصفها نموذجا متقدما للشعوب الإسلامية هو محض إعلان سياسي اليوم ومجازفة تعادل تلك التي رافقت الإعلان المستعجل للجمهورية العلمانية قبل أكثر من ثمانين سنة. وعلى النخب السياسية والثقافية في تركيا أن تتنبه أولاً لمخاطر تحويلها عينة اختبار للمرة الثانية، كما يستحسن أن لا تصدّق ذلك وتضيع الكثير من عمرها الحضاري. * كاتب كردي.