تنبع جاذبية النموذج التركي من سيره الجدلي الناجح، حتى الآن، باتجاه صياغة جديدة للهوية الحضارية، تتجاوز الأتاتوركية ك "أصولية علمانية"، كما تتجاوز "العثمانية التقليدية" التي مثلت الهوية الإسلامية لتركيا طيلة أربعة قرون، وذلك باتجاه"العثمانية الجديدة"كصياغة للهوية يتصالح داخلها الإسلام مع الحداثة، تبدو ملهمة سواء للقوى والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في البلدان العربية، أو للثقافة العربية العامة بإمكانية المصالحة التاريخية بين الشرق العربي الإسلامي وبين الغرب الحداثي، وذلك عند نقطة توازن لا تتنكر لقوة حضور الغرب في عالمنا المعاصر ولا لجاذبية قيمه الفكرية والسياسية، ولكنها في المقابل تضع هذا الحضور في موضعه، وترده إلى أصله باعتباره تجربة في التاريخ، وإن كانت زاهرة، لكنها ليست وصفة سحرية للتقدم كما تصورتها النخبة الكمالية. فعندما يصوت نصف الأتراك لحزب"العدالة والتنمية"ذي النهج الليبرالي، والأصول الإسلامية على نحو يمكنه من تشكيل حكومة منفردا فلا يعني ذلك سوى الحضور القوي للإسلام المعتدل، والذبول التاريخي للعلمانية المتطرفة. وعندما ينجح الحزب في زيادة نسبة أصوات منتخبيه من 34 في المئة قبل أربع سنوات، الى 46 في المئة اليوم فلا بد أنه يلبي بازدياد مطامح شعبه، وأن صيغة الهوية"العثمانية الجديدة"التي يجسد الحزب مرحلتها الثالثة"الناضجة"تبدو الأقدر على توجيه دفة المستقبل كونها صيغة توازن تحقق التوافق بين ثنائيات عدة، من قبيل: الدين والعلم، الإيمان والعقل، العرق والإنسانية، الماضي والحاضر. ومن قبيل: الدولة والمجتمع، الوطن والأمة، الشرق والغرب. وهذه الصيغة في الحقيقة هي محصلة لعمليتين جدليتين طويلتين شديدتي الأهمية، الأولى يمكن تسميتها بالجدل الداخلي / الذاتي والثانية بالجدل الخارجي/ التاريخي. أما العملية الأولى فيمثلها ذلك الجدل داخل النزعة الإسلامية نفسها، والذي نما في اتجاه اعتدالي من مرحلة جبهة"الشرق الأعظم"بقيادة نسيب فاضل في الستينات والذي حاول تنهيج دعوته الى إعادة بناء"إمبراطورية الشرق الإسلامي"ولو من خلال العمل السري بل المسلح، ما كان يعني أن وجهته كانت الى الماضي، بأكثر مما هي الى العصر، وتخاطب العثمانية التقليدية، بأكثر مما تخاطب الروح القومية الحديثة. وبدافع من جذريتها وماضويتها، كان فشلها وانسلاخ نجم الدين أربكان، تلميذ نسيب فاضل، والمهندس الحقيقي للصحوة الإسلامية التركية، والذي دشن المرحلة الثانية الأكثر اعتدالاً في مسار العثمانية الجديدة في الثمانينات والتسعينات تحت مسمى"النظام العادل"الذي تم تركيبه على أكثر من حزب سياسي بدءا من"السلامة الوطني"الذي أسسه أربكان أوائل السبعينات، وصولا الى"الرفاه"الذي دخل باسمه، للمرة الأولى، في ائتلاف حاكم منتصف التسعينات فشل في الحفاظ على قيادته له تحت ضغوط العلمانية والجيش التي أدت الى سقوط الوزارة، وتفكيك الحزب، وتجميد زعيمه. وبعد فترة اضطراب قصيرة داخل الحركة الإسلامية، فإن تلك الحركة شهدت صراعا على قيادة حزب"الفضيلة"وريث"الرفاه"، بين رجائي قوطان المقرب من أربكان، وممثل جيل"الرفاق"، وبين عبدالله غول، ممثل الجيل الشاب، ثم انقسام"الفضيلة"بين حزب"السعادة"ذي النهج الأكثر محافظة والأقرب الى أربكان، وبين حزب"العدالة والتنمية"ذي النهج الأكثر ليبرالية بزعامة رجب طيب أردوغان تلميذ أربكان الأكثر كارزمية، وبدأت المرحلة الثالثة من حياة العثمانية الجديدة، وخصوصاً مع صعود"العدالة والتنمية"الى موقع السلطة منذ عام 2002، ونجاحه في تعزيز مواقعه في الانتخابات الأخيرة. أثبتت العثمانية الجديدة قدرة هائلة على التجدد بل والتمدد أيضا، فأدت - على حد وصف أحد المحللين الأتراك - الى نهاية طبقة سياسية كاملة تصدرت الساحة التركية في نصف القرن الماضي بإلهام الأيديولوجية الكمالية. غير أن هذه التركيبة العثمانية في مراحلها الثلاث"جبهة الشرق الأعظم، والنظام العادل، و"العدالة والتنمية"كانت مضطرة دوماً الى تقديم تنازلات متوالية بغية التوافق مع الروح التركية الحديثة، وصولا الى نقطة التوازن الحرج بين مكوناتها وغاياتها النهائية. فقد اضطرت الى تجاوز"المنهج"الثوري والعنيف معا لخليل فاضل في جبهة الشرق الأعظم، وكان ذلك ضرورة تاريخية في الحقيقة. كما اضطرت مرة أخرى الى تجاوز"الغاية"الحضارية ذات الطابع الشمولي لأربكان في"النظام العادل"والذي أراد استقلالا صناعيا واقتصاديا لتركيا عن الغرب، يوفر لها نوعا من الاستقلال الحضاري، ويُمَكِّنها من تبوؤ مقعد القيادة في عالم الشرق الإسلامي الفسيح، بدلا من اختناق أنفاسها في قاع الصندوق الأوروبي الضيق، وربما المغلق. ومن ثم فلا غرابة أن دعوة أربكان الأثيرة"العاقلة"الى تشكيل مجموعة الدول الثماني الإسلامية الكبار التي ضمت مع تركيا مصر وإيران ونيجيريا في القلب الإفريقي، ودول الجناح الآسيوي مثل باكستان وبنغلاديش وإندونيسيا وماليزيا تجمدت تماما برحيله عن السلطة، وكان ذلك بمثابة ضرورة سياسية لا تاريخية. كما تبدو مضطرة في مرحلتها الثالثة، حتى وهي في سدة الحكم، الى التنازل عن هدف"التطبيع الكامل مع الإسلام"، إذ لا يزال الحجاب مشكلة تثير هاجس العلمانيين، وكذلك المدارس الدينية، بل وموقع رئاسة الدولة الذي يريد الجيش حرمان أي شخص ذي خلفية إسلامية من الوصول إليه، وهي قضية ثقافية ستثير معركة سياسية في الفترةالمقبلة، ناهيك عن قضية التوجه الخارجي سواء نحو الشرق العربي الإسلامي، أو الغرب الأوروبي، حيث تبقى عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي وعلاقتها مع الولاياتالمتحدة في بؤرة الاهتمام، مع جنوح طبيعي وعقلاني الى جعل العلاقة مع الغرب غير ضاغطة أو مورطة لتركيا في سلوك عدواني تجاه الشرق. وبرغم أن مشكلة الحجاب كحرية"شخصية"في اللباس تعد حقاً، وحرمان المرأة منه يتجاوز التقاليد التاريخية للعلمانية الى نوع من"الأصولية العلمانية"، فإن حزب"العدالة"لا يتعجل التغيير ولا ينزع الى المواجهة، ويذعن كثيرا لحساسية العلمانيين الى درجة تجعل زعيمه أردوغان متهما من الحركة الإسلامية التركية ب"التواطؤ مع العلمانية"، أو الخضوع لها، بل تدفع بعض المتشددين الى التشكيك في"ضميره"الإسلامي، ما يعني أن العثمانية الجديدة بلغت قدرتها القصوى على التكيف، مع حدها الأقصى من النجاح. وأما العملية الثانية فتتمثل في الجدل الإسلامي - العلماني، التي تخضع مساراتها بشكل واضح لمفهوم الجدل الهيغلي بين النقائض الموجبة والسالبة، إذ يمثل نموذج الخلافة العثمانية الصورة الأولى أو الأصلية للهوية التركية. وهي صورة استمرت قائمة نظريا حتى إعلان الجمهورية عام 1923 وسقوط الخلافة رسميا عام 1924. ولكن المنطق الجدلي للتطور التركي يؤكد أن الصورة النقيض أو السلبية/الأتاتوركية كانت تتخلق في رحم الأولى منذ بداية الثلث الثاني للقرن التاسع عشر وتحديدا منذ بداية عصر التنظيمات في 1839، ثم تنامت مع إعلان أول دستور عام 1876، مرورا بتكوين جمعية"الاتحاد والترقي"التي أجبرت السلطان عبدالحميد على إعادة العمل بالدستور عام 1908، ثم الحرب التحريرية التي قادها كمال باشا أتاتورك انطلاقا من فضاء الدولة الوطنية وليس الامبراطورية التاريخية كزعيم وطني حرر الأرض التركية في مواجهة المحتل الفرنسي والإنكليزي بعد الحرب العالمية الأولى. واستمرت هذه الصورة في النمو لنحو قرن قبل أن تسود وتعلن عن نفسها على المسرح السياسي التركي، ونمت تلك الصورة من السلب نحو الإيجاب لأسباب موضوعية، يأتي على رأسها التراجع التركي المستمر في مواجهة أوروبا منذ فشل الحصار الثاني لفيينا عام 1683 وبداية مسلسل الهزائم أمام روسيا ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومنها تفكك الأبنية التاريخية القائمة على الإقطاع الديني العسكري الذي جسدته العثمانية التقليدية مع تراجع العصور الوسطى وزحف العصور الحديثة على أنقاضها. وهو ما تجسد تاريخيا وسياسيا في بروز أوروبا كقوة حديثة متقدمة مهيمنة على اقدار العالم منذ القرن الثامن عشر على الأقل، وعلى تخوم الخلافة العثمانية، وهو ما أدركته الخلافة وبدأت في التكيف معه، ومحاولة تحديث نفسها باستعارة النمط الأوروبي. وكان في قلب هذه العملية التاريخية الجيش العثماني نفسه الذي مثل الأداة العملية في التحديث سواء على صعيد وسائل قتاله وأنماط تدريبه ووسائل عيشه ونظام الحياة والملبس داخله، أو على صعيد قيامه هو نفسه بمحاولة زرع التحديث في الخلافة نفسها ثم وهو الأهم، نهوضه بعملية التحرير الوطني وإعلان الجمهورية تدشينا لتركيا الدولة القومية الحديثة، وهي اللحظة التاريخية نفسها التي شهدت انقلابا في اتجاه الجدل بين طرفي الصورة فباتت العلمانية الأتاتوركية هي الصورة الأصلية أو القطب الموجب للجدل بديلا للعثمانية التقليدية التي أخذت في التواري تحت سطوة عملية التغريب العنيفة التي قامت بها النخبة الأتاتوركية من خلال الجيش والبيروقراطية التركية، التي حاولت إلغاء رموز الهوية التركية، بدءا من الخلافة الإسلامية نفسها عام 1924، ثم إلغاء الطربوش وحل الطرق الدينية عام 1925 وتبني القانون السويسري عام 1926، وإلغاء اعتماد الإسلام كدين رسمي للدولة عام 1928، وتغيير حروف الكتابة من العربية إلى اللاتينية عام 1928، ورفع الأذان بالتركية عام 1932. غير أن سطوة عملية التغريب من خلال علمانية متطرفة لا تأخذ الموقف المحايد من الدين كما في السياق التاريخي/الغربي بل تعتبر رفض الدين ومعاداته على المستوى الاجتماعي والطقوسي هدفا لها استفز في مواجهة العلمانية الأتاتوركية الصورة الأخرى"السلبية"لهذا الجدل ممثلة في نزعة عميقة وإن كانت خافتة لإحياء الإسلام الذي كانت عملية التغريب قمعته فقط من دون قدرة على اقتلاعه من وجدان الإنسان التركي، باعتباره معينا للهوية والخلاص الفردي والروحي في مواجهة قسوة عملية التحديث وتعثرها في الوقت نفسه. وبالطبع لم يكن الإسلام الذي انبعث سالبا هذه المرة في الجدل حول الهوية، هو الإسلام الموروث بمكوناته ومقولاته ومفرداته التقليدية، بل الإسلام الحديث ذو العمق الوطني والقومي التركي، والروح الديموقراطية النامية والتوجهات الاجتماعية التقدمية والاقتصادية المتحررة، وهي المقومات التي جعلته منذ تسعينات القرن الماضي، طرفا قويا مؤثرا في الجدل حول الهوية. غير أن هذا التطور التاريخي العميق، الذي يجني ثماره حزب"العدالة والتنمية"، لا يعني أسلمة تركيا من ناحية، إذ يبقى الحزب ليبراليا في أغلب التصورات المعلنة عن رموزه وإن انتفت عنه معاداة الإسلام كمعتقد وتقاليد في المجتمع التركي بما يعني أنه يسعى إلى تجذير الإسلام في المجتمع وليس إلى فرض الإسلام السياسي على الدولة فهو ينتصر للعلمانية في خبرتها الأوروبية، على الكمالية التي تمثل نوعا من الأصولية العلمانية المعادية للدين في السياسة والمجتمع معا. كما لا يعني استقرار الوضع نهائيا للحزب ك"بنية سياسية عملية"قابلة للتحول أو التفكك، ومن ثم التجاوز بعد أعوام أو عقود، وإن كان يؤكد على استقرار"العثمانية الجديدة"ك"صيغة ثقافية توازنية"للهوية داخل إطار يتسع تدريجيا لقطاع أوسع بكثير من النخبة الإسلامية الأولى في الستينات، بل ومن التيار الإسلامي الحالي الذي يمثل القاعدة الانتخابية ل"العدالة والتنمية"، وستميل إلى أن تكون وعيا وسطيا معلقا على الفضاء السياسي بأكثر من كونها ايديولوجية حزب سياسي معين في مواجهة آخر نقيض بالضرورة، فربما يتغير الحامل التاريخي لها ويحمل مسميات أخرى في العقود التالية، ولكن مع بقاء مضمونها الاعتدالي ورؤاها التوازنية في وضع أفضل ومتنام باستمرار في ساحة التعبير عن الهوية التركية. ذلك أن الظاهرة في مجملها هي ظاهرة تاريخية في الإحياء الثقافي لمجتمع عانى من علمانية متطرفة ومن قسوة الحداثة وإحباطاتها، كما عانى سلفا من تخلف تاريخي وتراجع حضاري بعد تفوق ساحق، ومن ثم فإن المنطق الجدلي يؤكد صعوبة الارتدادات العنيفة نحو أي من طرفي الجدل، الموجب أو السالب، بل ويقود إلى اندماجهما الحتمي في مركب إسلام عقلاني، تأسس على قاعدة إدراك عميق لدى النخبة لحقيقة أن العقل لا يلغي الروح وان تغيير الملبس لا يضمن تغيير الواقع، فعادت تبحث لنفسها عن جذور تربطها بالأرض، وعن قلب يوازن عقلها الجامح، وباختصار عن صورة تعادلية تستطيع من خلالها القول، إنها مسلمة بقدر ما هي عصرية، أو ربما عصرية بقدر ما هي مسلمة. * كاتب مصري