عادت إلى صدارة الكتابات والتصريحات في الشؤون الاستراتيجية عبارة أن "الولاياتالمتحدة لا تملك القوة الكافية لدخول حربين ساخنتين في وقت واحد". يريد الخبراء والقادة العسكريون الذين يرددون هذه العبارة التأكيد أن الولاياتالمتحدة لن تدخل حرباً ساخنة أو لا يجب أن تدخل في الأجل المنظور إلا إذا نجحت في سحب أكثرية جنودها وقواتها الجوية من العراق. هذا الطرح المتجدد لفكرة صعوبة شن حربين ساخنتين أميركيتين في آن واحد، إن صح استناده إلى أسس واقعية، يثير عديداً من الأسئلة أهمها على الاطلاق أبسطها وأسهلها وهو"إذا كان صعباً أو في حكم المستحيل شن حربين ساخنتين في وقت واحد، فكيف يمكن أن تحقق حكومة الولاياتالمتحدة أهدافها الاستراتيجية في أوروبا، وبخاصة في شرق أوروبا، وفي آسيا وبخاصة في وسط آسيا، وفي الشرق الأوسط وبخاصة في منطقة الخليج، في حال استمرت الحرب الساخنة في العراق، واستمرت روسيا تتقدم على طريق استعادة القوة والنفوذ واستمرت الصين والهند تنموان وتزداد حاجتهما إلى الطاقة؟". السؤال، إلى جانب بساطته وسهولته، منطقي وواقعي ونابع من التطورات الحادثة على أرض الواقع، ومن تحديات تتخيلها الولاياتالمتحدة أو هي بالفعل تواجهها وتراها تهدد مصالحها. ولا شك أن الإجابة عن هذا السؤال موجودة في ذهن المخططين والباحثين وصانعي السياسة الذين طرحوا بديلاً للحربين الساخنتين مناسباً وقابلاً للتصديق والتنفيذ. أما البديل فهو أن تنشب حربان باردتان في وقت واحد، وبسرعة إن أمكن، لتفادي اجتماع الظروف التي يمكن أن تدفع الولاياتالمتحدة إلى شن حرب ساخنة أخرى بينما حربها ضد العراق ما زالت قائمة. واحدة من هاتين الحربين تستحق صفة الحرب الباردة الأصغر، فالخصم فيها لا يتناسب اطلاقاً من حيث القوة والموارد مع الولاياتالمتحدة، على عكس الحرب الباردة الأعظم حيث الخصم فيها مناسب"نسبياً"للولايات المتحدة بحكم ما يتوفر له من مصادر القوة سواء المادية أم غير الملموسة. ولما كان من الضروري، من أجل حشد أكبر عدد من الحلفاء ضد الخصم الصغير والخصم الكبير على حد سواء، أن تبدو الحرب قريبة من التكافؤ، فقد وقع ربط إيران بعقيدة الإسلام، كأيديولوجيا أعيد تقديمها للرأي العام في دول الغرب في صورة تكشف عن عدوانية شديدة من جانب المسلمين للغرب وقدر هائل من الخصومة مع كل ما يمثله ويؤمن به. هكذا أمكن رفع مستوى الخصم الإيراني ليصير عدواً مناسباً. ويبدو أنه كان لازماً كذلك إعادة تضخيم هوية إيران المذهبية وإثارة الفتنة والفوضى والعنف داخل العالم الإسلامي. أما روسيا، فيجري وبمساعدة منها هي نفسها، تجهيزها لتستأنف احتلالها لمكانة الخصم المناسب في حرب باردة مع الغرب. ويبدو أن الغرب نجح في الزج بعنصر أيديولوجي ليحل محل الصدام الشيوعي الرأسمالي الذي لعب دوراً ممتازاً في شحن الحرب الباردة العظمى. ووقع الاختيار على صدام بين الفكر الديموقراطي الليبرالي ومؤسساته من ناحية وفكر"الاستبداد"ومؤسساته وممارساته عنصراً أيديولوجياً في الجولة الثانية من الحرب الباردة العظمى. لم يأت المتخصصون في صنع السياسة وتوليد الاستراتيجيات في الولاياتالمتحدة بجديد عندما استقر الرأي الغالب بينهم على الحربين الباردتين كبديل لحروب ساخنة جديدة. فالكثير من العاملين في مراكز البحث ومكاتب التحليل السياسي في الولاياتالمتحدة ما زالوا متأثرين باستراتيجيات الحرب الباردة وتكتيكاتها وأفكارها. ويذكر المراقبون أنه خلال السنوات الأولى التي أعقبت سقوط غورباتشوف وصعود بوريس يلتسين كان المخططون الأميركيون لا يفكرون إلا في اتجاه تمدد حلف الأطلسي إلى أقرب مواقع ممكنة من حدود روسيا وفي الوقت نفسه العمل بكل حماسة ونشاط لتفكيك مؤسسات الاتحاد السوفياتي ومنها المؤسسات التعليمية والعسكرية والإدارية والسياسية. بمعنى آخر لم تنته الحرب الباردة في الغرب في الوقت الذي أعلنوا فيه انتهاءها وإنما استمرت في أشكال مختلفة وفي اتجاه واحد. نذكر جيداً كيف انتقل الحصار الأميركي المفروض على روسيا من أقاليم الجوار الأبعد في ألمانيا وبولونيا إلى أقاليم الجوار الأقرب في أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق، ثم إلى الداخل ونحو الكرملين، أي نحو قلب روسيا. يعتقد خبراء أن حرباً باردة قائمة الآن بين الولاياتالمتحدة والغرب من ناحية وإيران من ناحية أخرى. ويستند هؤلاء الخبراء إلى اعتبار مهم، هو أن الولاياتالمتحدة تنفذ حرفياً ما تحفظه عن ظهر قلب وما يحتويه كتيب التعليمات عن الحرب الباردة بخصوص إجراءات الحرب الباردة وشروطها، منها مثلاً: 1- فرض حصار اقتصادي وسياسي على الخصم. 2- إحاطته بقوات تابعة لحلف الأطلسي. 3- وجود أسطول بحري ضخم على مقربة من سواحله. 4- إقامة قواعد جوية وصاروخية أميركية في دول أو جزر قريبة منه. 5- دعم الدول المجاورة للخصم بشحنات أسلحة حفزاً أو دفعاً لها لإعلان مشاركتها في الحصار والمساهمة في تكاليف في الحرب الباردة وتبعاتها. 6- حملة دعائية منظمة لتضخيم التهديد المحتمل وقوعه من الدولة موضوع الحصار، والتركيز على خطورة امتلاكها أسلحة دمار شامل وقيامها بتمويل الإرهاب أو تنظيمه. 7- توظيف إسرائيل، باعتبارها بؤرة جاذبة للتعاطف الغربي وباعتبار أن أمنها وسلامتها أحد مبررات نشوب الحرب الباردة أو استمرارها. إنها الإجراءات نفسها التي يذكرها ويجيد تطبيقها مسؤولون أميركيون من وزن الدكتورة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية وروبرت غيتس وزير الدفاع. هؤلاء المسؤولون نشأ وعيهم السياسي ونضج خلال سنوات التخطيط لمراحل الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، وشيدوا سمعتهم الأكاديمية على تخصصهم في الموضوع، هؤلاء فشلوا عندما جربوا استراتيجية أخرى في أفغانستانوالعراق، ويعودون الآن إلى ما خبروه واختبروه وانتصروا فيه. ليس صعباً في ما يبدو، أو على الأقل حسب ما يبدو لهذا النفر من المتخصصين الأميركيين في نظرية الحرب الباردة وتطبيقاتها، أن تعلن واشنطن ثم تدير حربين باردتين، وبخاصة إذا كانت إحداهما مع دولة صغيرة، والثانية مع دولة كانت عظمى وخرجت من الحرب الباردة ضعيفة عسكرياً وتواجه الكثير من صعوبات إعادة البناء الاقتصادي والاجتماعي. ليس صعباً بدليل أن المخططين الأميركيين فكروا في إقامة دروع صاروخية في تشيخيا وبولونيا تفيد الأهداف الأميركية، وبخاصة هدف شحن الأجواء المتوترة والعدائية لدى الخصمين، كل على حدة، وهم يعرفون أن طرح الفكرة في حد ذاته كفيل بإشعال هاتين الحربين. قد تكون الظروف مواتية لأميركا لشن حربين باردتين، ولكن إلى متى تستمر الظروف مواتية؟ لقد رأينا في الأسابيع الأخيرة كيف أن إيران أصبحت بفضل حربها الباردة الصغيرة مع الغرب، رصيداً مضافاً إلى قائمة أرصدة روسيا وربما الصين في الحرب الباردة الأكبر، ورأينا كيف أن دعوتها للمشاركة في اجتماعات نادي شنغهاي الأخيرة كانت في جانب منها تأكيداً واعترافاً بها كرصيد لهذا النادي المتحول تدريجياً إلى حلف، ورصيداً لها في المواجهة الناشبة مع الولاياتالمتحدة. وسمعنا الرئيس الافغاني حميد كارزاي يشكر إيران على مساعدتها حكومة كابول ويعترف بأهمية دورها في حل مشكلات أفغانستان. وسمعنا رئيس وزراء العراق نوري المالكي يشكر طهران على دورها الإيجابي والبناء في تحسين أحوال الأمن في العراق، وهو ما دفع الرئيس بوش في أعقاب ذلك إلى إعادة تأكيد الخطر الإيراني ودعوة المالكي إلى بذل مزيد من الجهد لفهم هذه الحقيقة. ونعرف أن"قبولية"، ولا أقول"شعبية"، إيران بين عامة العرب تزداد مع كل زيادة في اقتراب المعتدلين من قيادات الطبقات الحاكمة العربية من إسرائيل، وتزداد مع كل تصعيد إسرائيلي في حملة تحريض أميركا على ضرب إيران بعد أن تحققت أهدافها. مرة أخرى تتعقد الخيارات القليلة المتاحة أمام الحكومات العربية، فالعواصم العربية ما زالت ترفض، وإن بتردد متصاعد، الرأي القائل بأن إيران تحاصر الولاياتالمتحدة في العراق والخليج وتحاصر إسرائيل في لبنان وسورية وغزة وبأنها إن شعرت بالخطر فقد يتسع حصارها ليشمل حلفاء أميركا وأصدقاء إسرائيل من العرب. هذه العواصم ذاتها تعرف أن أميركا تحاصر إيران في الخليج وأفغانستان وباكستان وتركيا وتمول أنشطة"إرهابية"ضدها مثل عمليات تقوم بها جماعات"جند الله"والمقاومة في الأهواز و"مجاهدي خلق"، وتعرف أيضاً أن المراوحة الراهنة بين هذا الطرف وذاك أو المزاوجة بينهما، والموقف من الحرب الباردة الأكبر ومن احتمالات ارتباط الحربين ببعضهما، كلها ستكون بين الخيارات المتعددة أمام صانعي السياسات العربية خلال الشهور المقبلة. * كاتب مصري