سمعت من يقول إن النظام السياسي الأميركي، وبخاصة من يختص فيه بوضع السياسة الخارجية، تعتصره أزمة. وللمحاور الذي أدلى بهذا الحكم على النظام الأميركي رأي لا يصدر إلا عن شخص مقتنع فعلاً بأن النظام في أزمة، أما الرأي وله تفصيلات وحجج كثيرة، ومفتوح للاسترسال، فيمكن تلخيصه في عنوان بسيط ومفيد وهو أن السياسة الخارجية الأميركية فقدت هويتها. إذ يحيلنا صاحب الرأي إلى تناقضات سافرة بين قرارات متعددة في السياسة الخارجية. ولكنه يحيلنا أيضاً إلى انقسامات بعضها كامن وبعضها سافر داخل الأجهزة المسؤولة دستورياً عن صنع السياسة الخارجية، ثم يأتي بخطاب ألقاه السناتور الجمهوري من نبراسكا شاك هاغل Chuck Hagel منذ أيام أمام الباحثين والضيوف في مؤسسة بروكنغرز في العاصمة واشنطن، ليدلل به على أن الأزمة الراهنة هي أزمة هوية أكثر منها مشكلة توجهات أو اجتهادات. في هذا الخطاب يطرح السناتور الجمهوري موقفاً يتناقض كلية مع موقف الكونغرس الذي أيد استمرار العمليات العسكرية ضد لبنان وتصعيدها، رافضاً أي حوار مع سورية وإيران حول الأزمة في الشرق الأوسط. ويفضح السناتور الكونغرس الأميركي وغيره من أجهزة صنع السياسة الخارجية الأميركية بسبب عجزها عن وضع سياسات خارجية متناسقة ومتسقة مع بعضها البعض. يقول هاغل إن الولاياتالمتحدة يجب أن تتعامل مع سورية وإيران ويحذر من أن حلفاً وثيقاً مع إسرائيل لا يجب أن يكون على حساب العلاقات مع العالمين الإسلامي والعربي. وليس أدل على الأزمة التي تواجهها عملية صنع السياسة الخارجية الأميركية من تصريحات الرئيس الأميركي في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع توني بلير رئيس وزراء بريطانيا يوم 28 تموز يوليو، كان واضحاً أن الرجلين توصلا، كلاً على حدة أو كلاهما معاً، إلى نتيجة أن الحرب ضد الإرهاب دخلت مع الحرب الإسرائيلية ضد لبنان مرحلة بالغة الأهمية. ففي المؤتمر الصحافي تعمد بوش وبلير، كل بطريقته الخاصة التأكيد أن الحرب ستتوسع وتتعمق وتشتد ضراوة، ويبدو أنهما توصلا أيضاً إلى أن الخروج من العراقوأفغانستان انتهى كخيار ممكن عندما أشعل"حزب الله"أزمة لبنان، وازدادا اقتناعاً عندما اكتشفا ومعهما الأطراف كافة مدى التأييد الذي أسبغته عليه شعوب المنطقة. بمعنى آخر، اعترف الزعيمان الغربيان أنه يتوقف على مسار الحرب ضد لبنان مصير الحرب على الإرهاب مع مصير الاحتلال الأميركي للعراق ودور قوات الحلف الأطلسي في أفغانستان، وربما يتوقف عليه أيضاً مصير الاستراتيجية الأميركية، تحت الإعداد، لحصار الصين وتقييد الاتحاد الروسي. ولذلك أعلن الزعيمان الأميركي والبريطاني عزمهما على ضم لبنان إلى منظومة"الدول تحت الاحتلال"، بمعنى الدول الواقعة تحت احتلال قوات تابعة لما يسمى بالمجتمع الدولي ممثلاً بمجلس الأمن تارة والحلف الأطلسي تارة أخرى والدول الراغبة تارة ثالثة ودول الائتلاف تارة رابعة. لقد أكد الرئيس الأميركي وحليفه رئيس الوزراء البريطاني، بما فعلاه أو خططا للقيام به، الرأي بأن السياسة الخارجية الأميركية في أزمة. وهي أزمة أسبابها الراهنة متعددة. أهمها ما يتصل مباشرة بشخصية الرئيس الأميركي وأسلوبه في الحكم، خصوصاً أن للرئيس في النظام الأميركي، وبخاصة في السياسة الخارجية، شأناً عظيماً كما أسلفت من قبل لأن الناس تتبعه في الأزمات وتميل لاتباع رأيه إذا تعددت الآراء، ثم أن شأنه عظيم في إعادة بناء منظومة القيم لأنه يختار"أيديولوجية بعينها"من بين أيديولوجيات أو اتجاهات سياسية متعددة، ويأخذ على عاتقه اخضاع المجتمع لمبادئها ويدافع عنها مستخدماً طاقات الأمة ومن بينها قواتها المسلحة وقواها الناعمة وتحالفاتها الخارجية، وله، أخيراً، دور أساسي لأنه المترجم المعتمد لدى الرأي العام المكلف بعرض المشكلات الخارجية للولايات المتحدة بلغة مفهومة وبأسلوب مبسط ولكن بصدق وأمانة. لذلك عبر الكثيرون، وأنا منهم، عن القلق الشديد بسبب استخدام بوش تعبير"الفاشية الإسلامية"، فالتعبير أصلاً خطير، ولا يقل خطورة عن تعبير"الحرب الصليبية"الذي استخدمه بوش في أعقاب 11/9 وقد أدركنا جميعاً، ولمسنا ومازلنا نلمس، العواقب الكارثية لهذا التعبير. هنا، في رأيي يكمن أحد مصادر أزمة السياسة الخارجية الأميركية، فالرئيس بوش اشتهر منذ سنوات شبابه بالبساطة وبميله الطبيعي إلى تبسيط الأمور، وامتناعه عن التعمق في القضايا والمسائل التي تخصه أو تتصل بعمله، ويبدو أن هذه الصفات في شخصيته كانت الدافع وراء اختياره مرشحاً للرئاسة ليبشر بأفكار جماعات المحافظين الجدد، الذين يطرحون قضايا ومبادئ أو يخططون لسياسات يحتاج تنفيذها إلى رئيس يقدمها للرأي العام بطريقة شديدة التبسيط، فتبدو للناس نابعة من إيمان صادق ونيات طيبة وليست نابعة من نخب مثقفة عالية العلم وذات مصالح خاصة محلية وعالمية لا يطمئن إليها رجل الشارع. ومن يقرأ ويتابع ما كتبه قادة اليمين الجدد عبر العقود الأخيرة يعرف أن نمط تفكيرهم نخبوي إلى درجة أن بعضهم ألمح إلى سذاجة الشعب الأميركي وعدم قدرته على فهم"الأهداف العظمى"للأمة الأميركية، ولذلك لم يحدث اعتباطاً أو مصادفة أن وقع اختيار هذه الجماعة على الرئيس بوش باعتباره الشخص الذي يستطيع أن يصل إلى عقل رجل الشارع العادي بقدرته على تسطيح الأمور. لاحظ مثلاً كيف أن الرئيس بوش في جمل قصيرة للغاية وعبارات بسيطة وإحالات دينية قدم إلى الشعب الأميركي مشروع اليمين المحافظ لفرض الهيمنة الأميركية على العالم، كما لو كان الأمر حقيقة لا يزيد عن نشر الديموقراطية والحرية، لاحظ أيضاً كيف قدم أطروحة صامويل هانتنغتون لصدام الحضارات فجعلها تبدو حرباً يشنها إرهابيون إسلاميون على الديمقراطية والحرية، أي على الولاياتالمتحدة والغرب، ثم إنه لكي ينفذ خطة قديمة لغزو العراق واحتلاله حاول إقناع الشعب الأميركي بأن العراق هو مهد الإرهاب وترسانة أسلحة الدمار الشامل وعدو النظام الديموقراطي الأميركي. ولم يأت يوماً، على ما أذكر، على ذكر دور النفط أو حاجة أميركا إلى أن تقيم عسكرياً وبصورة دائمة في العراق لأسباب تتعلق بالصين ووسط آسيا وروسيا والقوقاز والصدام الجديد المتوقع تحت عنوان صدام الحضارات. هذه الأمور المعقدة لم تصل إلى مسامع الرأي العام عن طريق الرئيس المبشر أو الرئيس المترجم. كان الرئيس الأميركي قاسياً وبالغ العنف عندما ظل يصر على أن حرب لبنان بدأت بعدوان شنه"حزب الله"على إسرائيل واختطافه جنديين وأن هذا هو جذر الأزمة بأسرها، قارن هذا التسطيح العنيف مع ما كتبه الكاتب البريطاني غارتون آش. يقول آش:"متى وأين بدأت هذه الحرب. بعد التاسعة بقليل من صباح الأربعاء 12 تموز عندما اعتقل أعضاء في حزب الله إيهود غولد فاسر وإلداد ريجيف، الجنديين الاحتياطيين في جيش إسرائيل في غارة عبر الحدود شمال إسرائيل؟ أم الجمعة 9 حزيران يونيو، عندما قتلت قذائف إسرائيل سبعة فلسطينيين على الأقل على شاطئ في قطاع غزة ؟ أم في كانون الثاني يناير عندما فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية، في ما بدا نصراً للسياسة الأميركية المقررة للديموقراطية؟ أم في 1982 عندما غزت إسرائيل لبنان؟ أم في 1979 مع الثورة الإسلامية في إيران؟ أم في 1948 وقيام دولة إسرائيل؟ ثم أو ماذا عن روسيا في ربيع 1881؟". وكان بوش وما زال نموذجاً في التبسيط عندما جاء دوره لتبرير حاجة الجماعة المتطرفة المحيطة به الى انتهاز فرصة اشتعال المواجهة بين لبنان وإسرائيل ليستعيد كراهية الأميركيين والغرب عموماً للعرب والمسلمين، فسمعناه يقول للشعب الأميركي إن الأزمة لن تحل إلا بإزالة جذورها، أما الجذور فهي تهديد استقرار حكومة ديموقراطية في لبنان واختطاف جنديين إسرائيليين، وعن جذور الأزمة والمذابح في فلسطين، قال إنها رفض"حماس"ممارسة الديموقراطية في الأراضي الفلسطينية!! اقرأ معي نصاً لفقرة وردت في حديثه في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع بلير لتحكم على مدى التسطيح أو التبسيط في أسلوب تفكيره أو فهمه للأمور: "وعلى ذلك، فإن ما نراه الآن الحرب في لبنان، كما نعرف صدام بين أساليب حكم... مثلاً... نعرف... نعم... نعرف... إن فكرة الديموقراطية بدأت تنتشر... ترعب الأيديولوجيين... والشموليين... وهؤلاء الذين يريدون فرض رؤيتهم، أنها ترعبهم... ولذلك يقومون بالرد... كانوا دائماً عنيفين... يوجد هناك... هذا النوع... نوع.. نخبوية غربية تقول... جيد... ربما... بعض الشعوب في أجزاء معينة من العالم... لا يجب أن يكونوا أحراراً...". هذا التبسيط المخل، في حال وصوله إلى ذهن المستمع قد يفيد في تلبية أغراض اليمينيين المتطرفين في النخبة الحاكمة الأميركية وتبرير ضرورة استمرار احتلال العراق وتبييض صورة إسرائيل باعتبارها الشريك الأساسي في تحالف اليمين المتطرف الأميركي، ولكنه يزيد في تعقيد الأزمة التي تعيشها عملية صنع السياسة الخارجية الأميركية كما يقول الكاتب في جريدة"نيويورك تايمز"نيكولاس كريستوف، ويزيد في صعوبة حل المشكلات الدولية عندما يقول إن الحرب في لبنان، وكان التدمير مظهرها الأبرز، اكسبت المنطقة حالة جلاء ووضوح وبساطة لم تتوفر من قبل، وكأنه هو وكوندوليزا رايس يقولان إن الشرق الأوسط كان قبل الغزو الإسرائيلي قصة غامضة وصار بفضل التدمير قصة واضحة وسهلة، مثل هذا التسطيح يدفع إلى تعميق حالة عدم الثقة الأوروبية والصينية في كفاءة إدارة الرئيس بوش، وفي الوقت نفسه يضاعف من الشعور المتبادل بالكراهية بين أميركيين تقنعهم العبارات المبسطة والسطحية وعرب ومسلمين تهان عقائدهم وذكاؤهم وأوطانهم بسبب هذا التبسيط والتسطيح لقضايا هي بالنسبة إليهم قضايا حياة وأمن ومستقبل. أذكر أن رونالد ريغان، وكان نموذجاً لليمين الأميركي حذر مناحم بيغين في 1982 من أن الهجوم الإسرائيلي على بيروت ينذر بأن يتحول إلى محرقة. الفرق بين ريغان وبوش الصغير، هو الفرق بين زعيم حقق لبلاده النصر على الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، وزعيم لم يحقق نصراً واحداً معتبراً لبلاده. يقول ريتشارد هاس خبير التخطيط السياسي المعروف والزميل في مجلس الشؤون الخارجية الأميركي، إن الخطر يكمن في أن الرئيس بوش سيسلم لخليفته بيتاً أبيض ومنصباً وموارد شحيحة ليواجه بها عالماً أشد اضطراباً من العالم الذي تسلمه من سلفه، أما مويسيس نعيم رئيس تحرير مجلة"السياسة الخارجية"المعبرة عن آراء نخبة السياسة الأميركية فيقول عن حكومة الرئيس بوش إنها"مشتتة التفكير، عليها أن تعتني في آن واحد بأمور أكثر عدداً مما يجب وهي على كل حال حكومة استهلكتها الحرب على العراق". والملفت للنظر أنه لم يفت قادة جماعة اليمين الجديد الضرر الذي أصابهم بسبب تصرفات الرئيس بوش، إذ خرج زعيمهم الروحي وليام كريستول رئيس تحرير"ويكلي ستاندارد"يصف بسخرية الوضع العالمي في ظل سياسات بوش الخارجية فيقول"كوريا الشمالية تطلق صواريخ... إيران تتحول دولة نووية، الصومال يتحكم به إسلاميون متطرفون، العراق لا تتحسن أوضاعه، وأفغانستان تتدهور أحوالها..."، ولكنه يعترف بجميل الرئيس بوش حين استجاب لهم فدمر العراق، ولذلك يقول فيه"ولكننا نعترف له بصموده في العراق"، ومع ذلك أبدى قلقه لأن صمود بوش جعل"هذه الحكومة تواجه بسلبية شديدة تهديدات أخرى". لم أجد تشبيهاً أبدع من تشبيه استخدمه زبغنيو بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي يصور الرئيس بوش كمهرج أو لاعب في سيرك يقذف بعدد هائل من الكرات إلى أعلى ويعتمد نجاحه على قدرته على أن لا تسقط إحداها وإلا اختل توازن البقية فتسقط جميعها. ما لم يقله بريجنسكي هو أن ضعف القدرة على التركيز والزيادة الشديدة في عدد الكرات وعصبية اللاعب أدت جميعها إلى سلوك الكرات مسارات غير مساراتها وسقوطها واحدة بعد الأخرى وإلى فشل خطير في نظام السياسة الخارجية الأميركية. أتصور أن اللحظة الثورية في السياسة الخارجية الأميركية قاربت نهايتها، فباستغراقه في العراق، وباستدعائه غضب أو استياء معظم حلفائه وبترهيبه معظم شعوب العالم بحرب لا تخصهم، وبدعوته المتقلبة الى الحريات والديموقراطية وانقلابه عليهما، وبتشجيعه إسرائيل على شن حرب خسرتها فأضاف بخسارتها خسارة إلى سجل طويل من خسائر أميركية متعاقبة، يكون الرئيس بوش وصل إلى نهاية مسيرة ثورية في سياسة خارجية كلفت أميركا وكلفتنا غالياً. * كاتب مصري