لن تكون سهلة مهمة مؤتمر القمة الذي سيعقده رؤساء الدول الأعضاء في حلف الاطلسي في لشبونة بعد أيام في 19 و20 تشرين الثاني (نوفمبر). ينعقد المؤتمر ليناقش وثيقة تضع مفهوماً جديداً للحلف يحل محل المفهوم الذي أقرته قمة الاطلسي في عام 1999. ويفترض أن يجيب مشروع المفهوم الجديد على أسئلة ويستجيب لتغييرات حدثت ومتغيرات استجدت. كلها أسئلة وتغيرات ومتغيرات صارت تسبب كثيراً من الارتباك في دوائر صنع السياسة في دول الحلف ودول أخرى، وبخاصة الدول الناهضة عسكرياً واقتصادياً مثل الهند والبرازيل والصين واندونيسيا. نسأل بعد أن أصبح المسؤولون عن أمانة الحلف وقادته زواراً في بلادنا وضيوفاً شبه دائمين على حكوماتنا، كما يسأل الكثيرون في الدول الناهضة، عن حقيقة جدوى الحلف للسلام العالمي والإقليمي على ضوء التغيرات التي شهدها العالم خلال العقد الأخير. وتدفعنا إلى تكثيف الاهتمام بالحلف ومستقبله التطورات الحادثة في الولاياتالمتحدة وانحسار مكانتها الدولية وانحدار مستوى توقعات الشعب الأميركي منذ نشوب الأزمة المالية التي عصفت بالاقتصاد الأميركي. هذه التطورات في مجملها بالإضافة إلى ما رافقها من تغيرات في نظرات الدول الأخرى إلى الولاياتالمتحدة، أطلقنا عليها تعبير «المسألة الأميركية» تجاوزاً وليس بالضرورة تشبهاً بالمسألة الشرقية التي كانت محور علاقات القوى العظمى في القرن التاسع عشر عندما بدأت الإمبراطورية العثمانية طريق الانحدار النسبي ثم المطلق. لذلك، نتوقع أن تكون الولاياتالمتحدة قد بذلت جهوداً مضاعفة لإزالة شكوك ترتبت لدى بعض دول الحلف نتيجة الارتباك الواضح في واشنطن بسبب البطء الشديد في تجاوز الأزمة الاقتصادية وكذلك نتيجة لحالة العصبية والانفعال التي هيمنت على الساحة السياسية الأميركية، وكذلك نتيجة الفشل المريع في إدارة العلاقة مع إسرائيل. الحاصل فعلاً هو أن قطاعات واسعة في العالمين العربي والإسلامي صارت تضغط من أجل التخلي عن مزاج الثقة الذي اسفر عنه فشل الجمهوريين في انتخابات الرئاسة الماضية وظهور أوباما وفوزه، وأن قطاعات مماثلة في دول حلف الاطلسي تولدت لديها شكوك حقيقية في استقلالية القرار الأميركي، وبالتالي قرارات الحلف في شأن أو آخر من شؤون الصراعات المرتبطة بإسرائيل مثل الصراع حول إيران ومستقبل العراق ودول الخليج ودول حوض النيل. المتوقع الآن، وما يحدث بالفعل جانب منه، أن تحاول الولاياتالمتحدة الظهور بمظهر الواثق من قدرته على القيادة وتعبئة المشاعر ضد خطر قادم الى جانب خطر التمدد الإسلامي، وهذا بالضبط ما كانت تحاول تحقيقه خلال الأسبوعين الماضيين. وفي الوقت نفسه استمرت تضغط على الدول أعضاء الحلف لرفع مستوى مسؤولياتها داخل الحلف. كان مفهوماً ومتوقعاً أن تضع قيادة الحلف قائمة وظائف جديدة له بعد أن حقق التوسع الذي كان هدفاً أساسياً من أهداف المفهوم الاستراتيجي الذي أقرته القمة السابقة. وفي الوقت نفسه كان مفهوماً وما زال متوقعاً أن يحاول الحلف تطوير مواقفه من قضايا قائمة، وبخاصة تلك التي فشل فيها ويزيده الفشل انغماساً فيها وتوسعاً، وهو ما ينطبق تحديداً على الوضع في أفغانستان وامتداداته الراهنة في كشمير والأمن الداخلي في الهند وبعض دول وسط آسيا. ففي القضية الأفغانية يتعين أن تتوصل الولاياتالمتحدة مع بقية الحلفاء إلى صيغة تؤجل بموجبها دول مثل هولندا وكندا مواعيد سحب قواتها. وفي قضية روسيا، وعلى ضوء زيارة الأمين العام للحلف إلى موسكو التي جرت الأسبوع الماضي، سوف يتعين على الحلف أن يجد الصيغة المناسبة التي سيعرض بها على الرئيس الروسي يوم 20 من الشهر الجاري صيغة لمشاركة روسيا في الحلف. وفي هذا الشأن، يبدو أن بعض خبراء السياسة الخارجية في أميركا ينوون حشد موقف أوروبي وراء محاولة «استدراج روسيا إلى المشاركة في الزحف الأطلسي المتدرج نحو فرض طوق على الصين». المثير في الأمر هو أن تجد روسيا نفسها في المؤتمر تستمع إلى آراء عن تهديد الصين للاستقرار الإقليمي واحتمالات فرض حصار عليها، بعد أن كانت روسيا النموذج الأشهر لدولة عظمى تحت الحصار الغربي لأكثر من أربعين عاماً. يعرف القادة الروس ماذا يعني أن تعيش دولة تحت حصار، ويعرفون ماذا تعني الحرب الباردة التي يولدها هذا الحصار وتكلفتها المادية والإنسانية والايديولوجية. ولكنهم يعرفون أيضاً أن جهود واشنطن التي جسدتها رحلتا الرئيس باراك اوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون إلى القارة الآسيوية خلال الأسبوعين الماضيين لم تحقق الآمال المرجوة، فالدول الآسيوية في غالبيتها العظمى لا تريد أن تقيد حركتها فتنحاز في صراع بين الصين والولاياتالمتحدة يستنزفها قرناً أو أكثر. وغير خاف أنه يوجد بين خبراء آسيا وحكمائها من يعتقد أن الديبلوماسية الأميركية تخطئ إن مدت نشاط حلف الاطلسي إلى المحيطين الهندي والهادئ من طريق ربط الحلف بدفاعات كل من أستراليا ونيوزيلندا، عندئذ تتأكد السمعة الجديدة للاطلسي كحلف أقامه الرجل الأبيض ليفرض به هيمنته ويملي رسالته على الشعوب غير البيضاء. يصعب الاقتناع بأن تصدق دول حلف الاطلسي على اقتراح أميركي باتخاذ إجراءات أو قرارات أو تعديلات في مفهوم استراتيجية الحلف توحي للصين بأن الحلف ينوي مد نشاطه ليغطي جنوب وشرق وجنوب شرقي آسيا. كذلك يصعب أن توافق دول شرق ووسط أوروبا الأعضاء في الحلف على اقتراح بدمج روسيا عضوياً في لجان الحلف واستراتيجياته، وأن توافق ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا على تبني الحلف أفكاراً تزج به في مشاريع مواجهة وإن «دفاعية» تضع الصين وروسيا في سلة واحدة معادية للغرب. أتصور أنه سيكون لتركيا في هذا المؤتمر ما تستحقه من اهتمام يتناسب وحجم التغيير الذي أدخلته في سياساتها الخارجية والدور الذي صارت تلعبه في الشرق الأوسط. يعرف المسؤولون الأتراك أن الوثيقة ستركز على مفاهيم الإرهاب ومصادر ما يسمى بالعداء لثقافة الغرب، وعلى إيران كخطر يهدد كافة دول الحلف، وهم يرفضون هذا الأمر، وأعلنوا أكثر من مرة أنهم لا يرون خطراً يهدد تركيا من جهة إيران. وبالتالي فهم يرفضون أن تقام في تركيا قواعد للدروع الصاروخية بحجة الدفاع عن دول الحلف ضد روسيا أو ضد إيران. إن استمرار تركيا في تأكيد أن سياستها الخارجية الراهنة تقوم على قاعدة أنها دولة عديمة الأعداء ولا يهددها خطر من أي جهة يشكل تناقضاً صارخاً مع التزاماتها تجاه الحلف. فالحلف يعني، بين أشياء أخرى، تجمعاً ضد آخرين وتنظيماً ضد خطر أو تهديد حقيقي أو متوهم يشترك في الاقتناع بوجوده كافة أعضاء الحلف. الواقع الراهن يقول إن روسيا لا تمثل تهديداً لتركيا ولا «الإرهاب الإسلامي» ولا الصين حالياً أو مستقبلاً ولا إيران. التهديد الوحيد في طور التصعيد والاكتمال هو القادم من إسرائيل، وساعتها سوف يتأكد المأزق: مأزق عضوية تركيا في الحلف الاطلسي، تماماً كما تأكد فعلاً وأصبح حقيقة واقعة مأزق عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. * كاتب مصري