كان التوزيع الطائفي للمقترعين في دائرة المتن الشمالي، خصوصاً الموارنة منهم على المرشحين المتنافسين موضع اهتمام السفراء العرب والأجانب في لبنان، لما حمله من تحول في موقف الناخبين من زعيم"التيار الوطني الحر"العماد ميشال عون لمصلحة الرئيس أمين الجميل الذي خسر، بحسب رأيهم، المقعد النيابي الذي كان يشغله نجله الشهيد بيار الجميل في مقابل التراجع السياسي لخصومه في هذه الدائرة الانتخابية التي سجلت في انتخابات عام 2005 تفوقاً بآلاف الأصوات للائحة المدعومة من عون والنائب ميشال المر وحزب الطاشناق. فالتداعيات السياسية لنتائج الانتخاب الفرعي في المتن تجاوزت الحسابات الرقمية التي جاءت لمصلحة مرشح"التيار الوطني الحر"كميل خوري، الى حسابات تتعلق بتراجع لافت في نسبة الاصوات الداعمة لعون الذي لم يعد في مقدوره التعالي في مواقفه على خصومه المتنيين بحجة حصوله في الانتخابات الماضية على نسبة عالية من الأصوات أتاحت له التعامل مع الآخرين على انه الممثل الشرعي الأوحد للمسيحيين في المتن في عدد من دوائر جبل لبنان وزحلة حيث فازت اللوائح التي دعمها. وفي تقدير أولي لعدد من السفراء العرب والأجانب، يتقاطعون فيه مع ما خلصت اليه قيادات في الأكثرية في تقويمها نتائج المعركة، فإن الموجة العونية التي سادت في انتخابات 2005 أصيبت بخلل سياسي في أكثر من مكان ما أدى الى تراجع شعبية"الجنرال". وقالت قيادات في الأكثرية ل"الحياة"ان المزاج الشعبي المتني أعطى اشارة واضحة عن تحول تأييده من"التيار الوطني"الى 14 آذار، لأكثر من سبب: 1- ان عون اطل على المقترعين المتنيين في انتخابات 2005 بخطاب يتعارض مع الخطاب الذي توجه به اليهم في الانتخاب الفرعي، خصوصاً بالنسبة الى موقفه من"حزب الله"، وكان ينتقده بحسب البيان الانتخابي الصادر عن"التيار الوطني"خلافاً لموقفه الراهن على قاعدة ورقة التفاهم التي توصلا اليها. 2- ان الازدواجية في الخطاب العوني بالانتقال في سرعة من ضفة الى ضفة أخرى، وبين مواقفه التي كان يعلنها في باريس وتلك التي أخذ يعلنها في بيروت قوبلت باعتراض عبر عنه الناخبون بانحيازهم للرئيس الجميل، وتحديداً الموارنة والكاثوليك منهم. 3- ان عون حاول ان يستحضر خصوماً له من خارج المتن، ظناً منه ان خطاباً من هذا النوع سيشكل إحراجاً للجميل من ناحية وسيمكنه من الاحتفاظ بشعبيته، الى ان تبين له ان حملاته الدائمة ضد"قريطم"في إشارة مباشرة الى رئيس كتلة"المستقبل"النائب سعد الحريري ورئيس"اللقاء النيابي الديموقراطي"وليد جنبلاط لم تعط ثمارها السياسية. 4- ان استطلاعات الرأي من بعض المؤسسات جاءت لمصلحة"التيار الحر"لكنها حالت دون الالتفات بجدية الى استطلاعات أخرى اشارت بصراحة الى تراجع شعبيته عما كانت عليه عام 2005. 5- ان نتائج الانتخاب الفرعي اشارت بوضوح الى وجود خلل في علاقة قيادات"التيار الوطني"بمحازبيها في المتن، الذين اكتشفوا انه لم يحسن الخيار في انتقاء عدد من المرشحين الذين وصلوا الى الندوة البرلمانية بدعم مباشر من عون في ظل موجة التأييد الشعبية العارمة لمصلحته. 6- ان الانتخاب الماروني في المتن الشمالي سيؤدي حتماً الى تحرير البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير من الحسابات الانتخابية التي يحشره فيها باستمرار العماد عون بادعائه انه يمثل اكثر من سبعين في المئة من المسيحيين، وهذا يعني ان بكركي، من الآن فصاعداً، ستتعامل بمرونة وواقعية إزاء التحول في الموقف الماروني المتني. وعليه، فإن الموجة العونية في المتن لم تصمد في وجه التساؤلات التي أخذ يطرحها السواد الأعظم من الموارنة حول قدرة عون على الثبات في مواقفه من دون الالتفات الى التراكمات الناجمة عن التبدل، لا في مواقفه فحسب وإنما في خياراته السياسية. فالأكثرية تعتقد بأن الماكينة الانتخابية لأي قوة سياسية لا تنحصر مهماتها بإحصاء أصوات الناخبين، ولا بتأمين البطاقات الانتخابية، وإنما في استقراء المزاج الشعبي من جهة وفي الاستماع الى ملاحظات المتنيين حول أداء عدد من النواب المنتمين الى تكتل"التغيير والإصلاح". كما تعتقد الأكثرية بأن غالبية الموارنة في المتن قالت لعون، من خلال اقتراعها للجميل انه سيكون واحداً من المرشحين لرئاسة الجمهورية وليس المرشح الأقوى والوحيد لتقديره بأن الموجة الشعبية الداعمة له لن تتبدل او تتأثر ب"الاشاعات"التي تبثها الأكثرية ضده. كما ان النظرية القائلة إنه الزعيم الأقوى، تصلح لبعض الوقت وإنما ليس لكل الأوقات، نظراً الى قيامها قبل الانتخاب الفرعي على حسابات صحيحة، بينما ستواجه اليوم تشكيكاً مقروناً بالافرازات السياسية والطائفية التي حملتها نتائج الانتخاب الفرعي. كما ان الجميل الذي خسر المقعد النيابي، ربح في المقابل استعادة دوره كزعيم ماروني، اضافة الى ان حجم التأييد الماروني له اعاد لحزب الكتائب اعتباره السياسي بعد ان كانت الانشقاقات والانتفاضات التي تعرض لها من كل حدب وصوب استنزفته. وعلى رغم تسليم الجميل بفوز"التيار الوطني"بالمقعد النيابي وان حلفاء عون متفقون على ان عون لم يخسر، الا ان بعضهم سيجد الفرصة المناسبة ليقول له:"لم تعد تتفرد بالتمثيل المسيحي"وهذا ما سينعكس على انتخابات رئاسة الجمهورية. وهكذا فإن تراجع نسبة التأييد الماروني لعون يخفف من اندفاعه وبعض حلفائه لأن تمثيله في حكومة وحدة وطنية يجب ان يأخذ في الاعتبار انه لم يعد يمثل سبعين في المئة من المسيحيين وان النتائج السياسية للانتخاب الفرعي دعمت استطلاعات الرأي التي كانت تشير الى تراجع شعبيته لدى الموارنة. كما ان بعض حلفائه، في حال حملت المعطيات الاقليمية والدولية تبدلاً لجهة ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، سيضطرون الى مصارحته بأنه لم يعد في وسعهم الإصرار عليه كمرشح أوحد لرئاسة الجمهورية وبالتالي عليه ان يبادر الى التكيف لأنه لا يمتلك القدرة على مقاومة الواقع السياسي الجديد الذي أفرزه الانتخاب الفرعي، والا سيضطرون الى الدخول في تسوية تفتح الباب أمام التوافق على رئيس الجمهورية الجديد، بذريعة انهم لم يتخلوا عنه، لكنهم لن يديروا ظهورهم للتحول في الشارع الماروني الذي ظهر للعيان وبأكثرية لا لبس فيها، وجهت انذاراً الى عون احتجاجاً على خياراته السياسية.