اعتبرت اليونيسكو قبل ثلاث سنوات، يوم 23 آب من كل عام يوما عالميا لتذكر ضحايا الرق وتجارة العبودية وتعلم الدرس من التاريخ. وتم تحديد هذا اليوم لأنه يحيل الى تمرد العبيد في مزارع السكر والقطن بالدومينيكان وهاييتي على اسيادهم من ملاك المزارع عام 1791، وأدى نجاح الثورة الى تأسيس اول دولة من السود في العالم. وبهذه المناسبة اعدت دول كثيرة برامج احتفالية، واعتبرت بريطانيا هذا العام بأكمله احتفالية لمناسبة مرور قرنين على تحريم تجارة العبيد، وثار الجدل حول ضرورة الاعتذار للسود في العالم. وغاب اي جدل داخل المجتمعات العربية والاسلامية كأن الأمر لا يعنيها ولا شكلت العبودية جزءا من تاريخها البعيد او القريب. لقد بدأت العبودية عموما مع الحروب والغزوات التي شنها البشر على بعضهم البعض بعد ان خرجوا من مرحلة البدائية. فكان يؤخذ المهزوم ونساؤه واطفاله عبيدا وخدما للمنتصر، وكانت الامبراطورية الرومانية من اشهر الحضارات التي اقتنت العبيد بسبب الحروب الكثيرة التي كانت تشنها في العالم من حولها. لكن لاحقا وفي عهود الاستقرار النسبي، ما عاد البشر يكتفون بغنائم النزاعات فقد ازدهرت الحياة واتسعت الاملاك والطموحات وعم البذخ الذي يقتضي تدليل الثري لنفسه وبيته وتوسيع استثماراته، فكانت الحاجة الى تجارة تنظم توريد الرقيق كعمالة غير مدفوعة الاجر، حتى وصلت الى قمتها وابشع مظاهرها في القرن السادس عشر على يد التجارة البحرية البريطانية، وكانت افريقيا الهشة هدفا سهلا لشعب اعتبر اقل انسانية وفي مرحلة وسطى بين البشر والحيوان. ويطالب السود العالم الآن بالاعتذار عن ذلك التاريخ"الاسود"، واكتفى توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق بالتعبير عن اسفه عن تلك التجارة ولم يعتذر رسميا باسم بريطانيا، مع ان تلك التجارة شكلت الاقتصاد البريطاني الحديث من صناعة ومصارف واستثمارات، وازدهار لصناعة القطن والانسجة والسكر والشوكولا والتبغ، بفضل عرق السود المقتلعين من افريقيا نحو الطرف الآخر من الاطلسي، الاميركيتين والجزر المترامية بينهما خصوصا البحر الكاريبي. وكان كل ذلك يتم عبر السفن البريطانية، هذا اضافة الى تورط المجتمع بأكمله من قساوسته الى تجاره بامتلاك العبيد والمزارع في العالم الجديد. الحضارة الاسلامية بشكل عام اغتنت من الرق بشكل او بآخر بعد انتهاء الخلافة الراشدة، واستمتع الخلفاء والاثرياء بالجواري والغلمان، وبعض العبيد استخدم كحرس وعمالة وعسكر في انحاء الدولة الاسلامية التي اتسعت كثيرا، والمماليك في مصر جيء بهم من سهوب اواسط آسيا وجبالها. ان تراثنا الفني الحالي هو نتاج تراكم الفنون التي ابدع فيها الجواري والقنان كما ابدع الاحرار من المغنين والموسيقيين. وعند قراءتنا امهات كتب التاريخ نعثر على ادلة دامغة تدلل على حجم الرق الذي شهدته الحضارة العربية الاسلامية، حتى انه يتوجب علينا ان نقتنع باننا من سلالة خليط من الاحرار والعبيد، والا فأين ذاب كل من وردت الاشارة اليهم في التراث المسجل في ادبياتنا؟ تجارة الرقيق ازدهرت بشكل كبير في عهد الخلافة العباسية مع اتساع رقعة املاكها وثرواتها بالحروب والفتوحات، فكان الخلفاء يمنحون اعطياتهم المكونة من الجواري والقنان والمال مكافأة لكل من يسعدهم بقصيدة مدح او ينشيهم باغنية ، وقد تزيد الجائزة للموالين سياسيا وعسكريا حتى تصل الى عشرات الافراد من الجواري والغلمان. كذلك حضر الرقيق بشدة في فترة الخلفاء العثمانيين الذين توسعوا نحو اوروبا. التجار العرب ساهموا في تغذية تجارة الرقيق في افريقيا بالتعاون مع البريطانيين، عندما كان غرب القارة وقلبها يستنزف بشريا لثلاثة قرون تقريبا حتى وصل الرقم الى ملايين الافارقة. وموريتانيا حرّمت اخيرا العبودية تماما، ما يعني انها لا تزال موجودة في المجتمع كظاهرة. واعتقد ان ذاكرة الكثيرين منا تستعيد حضور افراد من اصول افريقية عاشوا في بعض بيوت المعارف والاقارب كخدم تم شراؤهم، وان تفاوتت نسبة حضورهم من مجتمع لآخر. والآن السود العرب احرار في المجتمعات العربية ومتساوون نظريا مع غيرهم، ولكنهم في رتبة مواطنية اقل من ناحية عملية، وليس من ذنب لهم سوى ان اسلافهم سبوا واقتلعوا من مواطنهم الاصلية. وطالما اننا نتحدث عن العصر الحالي، نقول ان العبودية لا تزال حاضرة في العالم متخفية وراء مسميات اخرى وتشترك مع العبودية الرسمية بانتفاء الحقوق المدنية واساءة المعاملة وتقييد حرية الحركة والتصرف، وتتميز باسماء جديدة مثل: الخدم، الرقيق الابيض، العمالة غير الشرعية، الخ. وهذا يحملنا المسؤولية الاخلاقية لمحاربتها بمختلف اشكالها مثلما فعلت المجموعة التي قادت في بريطانيا القرن الثامن عشر حملة وطنية لالغاء تجارة العبيد اولا، ثم تحريم العبودية ككل، لاحقا. ولولا تدخل اصحاب الضمائر هؤلاء، ضمن ما يعد من اولى محاولات تشكيل منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الانسان في العالم، لتأخر ربما الغاء العبودية وتحرير العبيد في كثير من بقاع الارض. هل تستحق شعوب العالم، خصوصا ذات الاصول الافريقية، اعتذارا عن الآثار التي لحقت بها بسبب العبودية؟ نعم، والاعتذار فعل لا يحط من شأن اي أمة بل انه يغسل بعض ما تلوث في ارواح الضحايا من معاناة فظيعة تعرضوا لها. ولنتذكر ان الاوضاع المزرية للسود في العالم اجمع، وقد اصبحوا في الغرب رمزا للجريمة، سببها الاساسي اقتلاعهم من مجتمعاتهم الاصلية ونهب ثروات بلادهم والنظر اليهم على انهم اقل درجة في المجتمع. ان الاعتذار اشارة حضارية بين الامم، وها هو وزير الثقافة الدانمركي يعتذر اخيرا للايرلنديين عن المجازر التي ارتكبها اسلافه الفايكنغ عند غزوهم لبلادهم في القرن التاسع الميلادي. اما مناسبة الاعتذار فسفينة عثر عليها في اعماق البحر قرب الشواطئ الدانمركية تبين ان خشبها من غابات ايرلندا. السفينة اخيرا ابحرت بعد ترميمها وعلى متنها مائتا مواطن دانمركي وصلوا الى شواطئ ايرلندا حاملين رسالة اعتذار، شعبية هذه المرة، عما فعله اجدادهم. ولم يضر دولة الدانمرك وهيبتها ذلك الاعتذار الحضاري، فمتى يأتي دور بقية دول العالم وبينهم العرب والمسلمون ليعتذروا عما تسببوا به من رق وعبودية لغيرهم من البشر؟