Christian Delacampagne. Une Histoire de L'Esclavage. تاريخ الرق. Poche, Paris. 2003. 320 pages. ليس في تاريخ البشرية موسسة حُللت الى أقصى حدود التحليل، ثم حُرمت الى أقصى حدود التحريم، مثل مؤسسة الرق. فعمر مؤسسة الرق لا يقل عن خمسة آلاف سنة. وقد تواقت عملياً ظهورها مع ظهور الدولة. ولم يجهلها أي مجتمع من المجتمعات، وقد أباحتها جميع الديانات، بما فيها التوحيدية منها، وان تكن هذه الاخيرة قد جنحت إجمالاً الى الحث على حسن معاملة الرقيق، أو على عتقه كفعل من أفعال البر. وقد تميزت بعض الحضارات بأنها كانت بطبيعتها رقية مثل الحضارة اليونانية او الحضارة الرومانية. ففي أثينا كانت نسبة الأرقاء الى الأحرار لا تقل عن خمسة الى واحد. وفي القرن الرابع قبل الميلاد قُدّر عدد الأرقاء فيها بمئتي ألف مقابل عشرين ألفا من الاحرار. وقامت الامبراطورية الرومانية بدورها على اساس من نظام العبودية. وكان عدد الارقاء فيها يتعاظم طرداً مع اتساع الفتوحات. فعندما فتح يوليوس قيصر غاليا فرنسا اليوم استعبد من سكانها نحواً من مليون رأس. وعندما فُتحت قرطاجة سيق مئتا ألف من سكانها عبيداً الى روما. وقد قدرت بعض المصادر التاريخية اجمالي عدد الارقاء في الامبراطورية الرومانية على مدى خمسة قرون من تاريخها بأكثر من ثمانية ملايين رقيق. وعندما اندلعت ثورة سبارتاكوس عام 73 ق.م استطاع ان يجيّش من رفاقه الارقاء نحواً من خمسين ألف رجل شكلوا على مدى سنتين تهديداً جدياً لوجود الامبراطورية الرومانية. وعندما تمكن القائد كراسوس من هزمهم، بعد مصرع سبارتاكوس في القتال، أعدمهم عن بكرتهم وصلب ستة آلاف منهم على مداخل روما. ولم يؤد تنصر الامبراطورية الرومانية الى الغاء ظاهرة الرق، وان تكن قد صدرت مراسيم امبراطورية وبابوية بتحريم امتلاك غير المسيحيين لأرقاء مسيحيين. وعلى امتداد القرون الوسطى كان يعمل في مزارع البابا آلاف العبيد. وتماماً كأرسطو، الذي كان يقول ان بعض البشر يولدون بالفطرة عبيداً، برر القديس توما الأكويني في القرن الثالث عشر للميلاد ظاهرة الرق بتوكيده ان بعض البشر يولدون بالفطرة ايضاً ليكونوا خدماً لغيرهم من البشر. ومع ان الحضارة العربية الاسلامية لم تكن، نظير الحضارة الرومانية، حضارة رقية تقوم على ما أسماه ماركس بنظام الانتاج العبودي، الا انها كانت بدورها واحدة من اكبر الحضارات تعاطياً مع ظاهرة الرق. وتقدر المصادر التاريخية عدد الارقاء الذين تم استجلابهم للعمل الزراعي في سواد العراق، او للخدمة في قصور الخلفاء والامراء وقادة الفتوحات، بنحو عشرة ملايين رقيق في الحقبة ما بين القرن السابع والقرن الخامس عشر للميلاد. وقد تميز الرق في الاسلام، العربي أولاً والعثماني لاحقاً، بخصائص ثلاث: الرق الحريمي الذي استدعى اللجوء على نطاق واسع الى "تقنية" الخصاء، والرق النسوي الذي ترجم عن نفسه بظاهرة "الجواري"، واخيراً الرق العسكري الذي دشنه المأمون بتجهيزة نفسه بحرس شخصي من الرقيق الابيض من الصقالبة والأتراك والروم والبربر، ووجد نموذجه الأتم في النظام المملوكي الذي أتاح للأرقاء ان يغدوا سلاطين وان يستأثروا بالحكم في مصر على امتداد قرنين ونصف القرن بلا انقطاع. وجاء اكتشاف القارة الاميركية في نهاية القرن الخامس عشر ليحدث انعطافاً جذرياً في المسار التاريخي لظاهرة الرق. فحتى ذلك القرن كان الرق "ابيض" اكثر منه "اسود"، وكانت الوظيفة الاولى للرقيق منزلية او جنسية اكثر منها انتاجية. ومع ان القارة الافريقية كانت تمثل حتى ذلك الحين منبعاً ثابتاً من منابع الرق غرف منه النخاسون العرب والبربر على سعة فمع اكتشاف اميركا وتحول تجارة الرقيق من تجارة عابرة للصحراء الى تجارة عابرة للاطلسي، تعرضت القارة السوداء لعملية استنزاف سكاني غير مسبوق اليها في التاريخ، فأخذ اكثر من 20 مليون رقيق اسود، عبر اكثر من 50 ألف رحلة بحرية، طريقهم الى العمل العبودي في المناجم وفي مزارع السكر والقهوة والقطن والكاكاو في اميركا الشمالية والجنوبية على حد سواء. ومما سيزيد من شدة الهجمة النخاسية على القارة السوداء قيام الامبراطورية العثمانية وتوسعها في شرقي اوروبا ووسطها، مما أدى الى قطع الطريق التقليدية للتمون بالرقيق الابيض من منابعه البلقانية والصقالبية. ومهما بدت المفارقة كبيرة، فإن الأفارقة أنفسهم ساهموا على نطاق واسع في تطوير ظاهرة الرق. فعلاوة على بلدان الشمال الافريقي التي كانت تخصصت منذ الفتح الاسلامي في استجلاب الرقيق الاسود عن طريق الحرب او النخاسة، فإن الامبراطوريات الاقطاعية والأثنية التي قامت في جنوب الصحراء، مثل غانا ومالي وداهومي، مارست هي الاخرى الاسترقاق على امتداد العصر الوسيط قبل ان تتحول، مع مجيء "الرجل الابيض"، الى منجم ذهبي لتوريد الرقيق الاسود عن طريق الإغارة المنظمة على القبائل المجاورة والأثنيات المعادية. فالأسود كان من "يصطاد" الأسود ليبيعه للتاجر الاوروبي الذي خلف في هذا المجال، ومع التحول الاطلسي في اتجاه النخاسة، التاجر العربي. ولئن تكن اميركا هي التي ضربت الرقم القياسي في ممارسة الرق بتحويلها إياه الى ظاهرة رأسمالية، عن طريق التوظيف المكثف لليد العاملة السوداء المسترقة في مزارع السكر، فإن اميركا هي التي يعود اليها ايضاً قصب السبق في المبادرة الى إلغاء الرق كظاهرة ثابتة وعنيدة ومعمرة من ظاهرات التاريخ البشري. فالحركة الداعية الى إلغاء الرق لم تر النور لا في اوروبا الاصلاح الديني، ولا في فرنسا عصر الأنوار، بل حصراً في المستعمرات البريطانية الثلاث عشرة في القارة الاميركية الشمالية التي اعلنت استقلالها عن التاج البريطاني عام 1776. وقد كان الرواد الاوائل للحركة الداعية الى الغاء الرق اعضاء "جمعية الاصدقاء"، أي "الكويكرز"، التي كان اول من أسسها البروتستانتي الليبرالي الانكليزي جورج فوكس في منتصف القرن السابع عشر. وكانت أول نشرة تدعو الى تحريم الرق وتحمل توقيع الكويكرز قد صدرت في ولاية بنسلفانيا عام 1688. لكن القرار الأخطر بإطلاق من منظور الغاء الرق كان ذاك الذي اتخذه كويكرز ولاية فيلادلفيا عام 1759 بعدم قبول أي تاجر او مالك للرقيق في صفوفهم. وغداة الاستقلال مباشرة كانت اول ولاية تتخذ قراراً بالالغاء الفوري للرق ولاية فيرمونت عام 1776، وتلتها ولايتا ماساشوستس ونيو همشاير عام 1783. لكن الدستور الاتحادي، الذي تم اقراره عام 1787، ارجأ بالمقابل مسألة البت في الالغاء الرسمي والمعمم للرق لمدة عشرين سنة اخرى، تاركاً بذلك الفرصة للجمعية الوطنية للثورة الفرنسية لإصدار اول قانون رسمي لإلغاء الرق عام 1794. لكن على حين ان هذا القانون بقي حبراً على ورق ومعلقاً تطبيقه في المستعمرات الفرنسية، فإن مستعمرة اميركية هي ليبيريا ومن هنا اسمها: أي الحرية كانت أول مستعمرة افريقية تعلن في دستورها الغاء الرق وتدعو العبيد الاميركيين الى التوطن فيها. وفي 1819 صدر مرسوم تشريعي بإلغاء الرق في جميع الولايات الاميركية الواقعة الى شمال خط العرض 36.3. وقد اصطدم هذا المرسوم بمعارضة الولاياتالجنوبية التي كان ما لا يقل عن ثلاثة ملايين رقيق اسود يعملون في مزارع القطن فيها. ومنذ ذلك الحين غدا الصدام المسلح بين الشمال والجنوب محتماً. وقد عجل انتخاب ابراهام لنكولن الذي كان من الإلغائيين المشهورين رئيساً للاتحاد الاميركي عام 1860 في اندلاع ذلك الصدام، اذ أدى الى انفصال ولايات كارولاينا الجنوبية والميسيسيبي وفلوريدا وألاباما وجورجيا ولويزيانا وتكساس وفرجينيا وكنساس وتينيسي وكارولاينا الشمالية. وكان تعداد سكان هذه الولاياتالجنوبية الاحدى عشرة 11 مليون نسمة، مقابل مليون نسمي في الولايات الشمالية. والحرب التي نشبت بين الجنوب والشمال ودامت اربع سنوات 1861 1865 كانت اول "مجزرة" بشرية كبرى في العصر الحديث، اذ خلفت نحواً من 570 ألف قتيل من البيض بالاضافة الى 38 ألف قتيل من السود. وقد انتهت هذه الحرب بتعديل الدستور الامركي وبتضمينه مادة تنص على الغاء الرق في جميع ولايات الاتحاد. لكن عدا اولئك المئات الآلاف من القتلى الاميركيين، دفع لنكولن نفسه ثمن ذلك النصر: فقد اغتاله جنوبي متعصب في 14 نيسان ابريل 1865. وكرّت بعد ذلك سبحة الدول الاميركية والاوروبية التي ألغت الرق بصفة دستورية، وتلتها الدول الآسيوية. ولكن توانت عن هذا الركب الدول الافريقية والاسلامية. الاولى لموروثها الثقيل من التركة الاستعمارية التي ألغت الرق في المتروبولات وتركته ساري المفعول عملياً في المستعمرات. والثانية لتقيدها بقاعده فقهية شرعية تقول ان ما حلله الله لا يجوز ان يحرمه بشر. ولئن تكن المغرب وافغانستان والعرق وايران قد تأخرت حتى العقد الثالث من القرن العشرين لتلغي الرق رسمياً، فإن دولاً اخرى مثل الكويت وقطر وجيبوتي واليمن قد تأخرت حتى الخمسينات والستينات. اما في عمان فلم يلغ الرق الا عام 1970 بعد ان حل السلطان قابوس محل ابيه في الحكم حيث اكتشف في مقرة المئات من العبيد الذين كان محرماً عليهم الكلام حتى فقدوا القدرة على النطق. والى اليوم لا تزال دولتان عربيتان تمارسان اشكالاً من الرق، ان لم يكن قانوناً فعرفاً، في ظروف من الانقسام العرقي بين البيض والسود في موريتانيا، ومن الانقسام العرقي والطائفي معاً بين المسلمين والمسيحيين والاحيائيين في السودان. وفي الحالة السودانية وهي الفاضحة يقف المجتمع الدولي عاجزاً عن التدخل بسبب الحرب الاهلية المستمرة منذ 1983.