تقول "مرتا" اللبنانية أشياء كثيرة، والمطلوب واحد، حسب العبارة الشهيرة المعروفة، وما هو منتظر من اللبنانيين لا يتجاوز امتلاك الشجاعة للجهر بأمر أساسي، هو: أننا عاجزون عن إعادة تشكيل البلد، بسبب من تشكيلتنا الداخلية أولاً، وبضغط وتدخل من الدوائر الخارجية ثانياً. إعادة النظر في المسالك السياسية التي ولجها البلد، تفضي إلى نتيجة واحدة: تضخيم وتزخيم مستوى التنابذ الداخلي... أما الوسائل فكثيرة، وأما الأدلة على الافتقاد إلى الحكمة التسووية الداخلية، فعديدة، هي الأخرى. على ضوء الواقع اللبناني، ووقائعه، يمكن القول أن كل سياسة فئوية، طائفية، أو مذهبية، أو حزبية، تشكل عاملاً"تفكيكياً"إضافياً، إلى أصل النشأة التكوينية اللبنانية، التي قامت على"جمع المفكك"في الأصل، ولم يصب الوضع اللبناني حتى الآن، نجاحاً في تأمين نصاب وعوامل دمجها. ولأن وراء كل سياسة ضيقة ساسة، يصير من المنطقي القول إن البحث في المسؤوليات عن المآل البائس الذي صار إليه لبنان، يطال كل أرباب الطوائف ودهاقنتها، من دون تمييز، مثلما يشير إلى بؤس كل الخطب الحزبية، اليسارية والليبرالية والديموقراطية والوطنية... التي لا تفعل سوى ترداد كلمة"قادة الجماهير المغلقة"، ولا تقدم في الممارسة، إلا الالتحاق بالكتل الأهلية شبه المعزولة في قوقعات خطبها وتوجهاتها. لقد عصفت بلبنان أحداث جسام، أصابت ارتداداتها ما بدا أنه"توحد لبناني"حول توجهات وخيارات عامة، خاصة منذ ما بعد اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهلية، لكن الواقع العنيد عاد ليظهر صورة اللبنانيين"بالأسود والأبيض"، متخففين من كل أحمال الكلام الوفاقية، وشاهرين سيوف الغلبة الداخلية، التي يطمح كل فريق من فرقاء"التوافق الأهلي"إلى توظيفها في صالح موقعه الطائفي الخاص، ضمن مجمل التشكيلية"السلطوية"اللبنانية. تتيح هكذا مقاربة، العودة إلى مراجعة الحسابات السياسية وتدقيقها، وإلى إعادة قراءة المحطات الوازنة في مسار إعادة تركيب"الحكم"اللبناني، وذلك بغية الوصول إلى تصنيف حقيقي للمواقف السياسية وخلفياتها، التي حكمت"التعايش"الداخلي الهادئ، حتى عشية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما تبع ذلك من تداعيات وسياسات. لقد كان الحدث السياسي الأبرز، مع مطلع التسعينات، مباشرة"السلم الأهلي"اللبناني، بالتأسيس على وثيقة الوفاق الوطني في الطائف. استرجاعياً، لم يستطع كيل المديح للاتفاق من قبل المستفيدين"الجدد"منه، تجاوز حقيقة أن"الاتفاق"المذكور، قد نجح في إيقاف إطلاق النار، لكنه وضع البلد في دوامة"حرب أهلية باردة"، كانت لها تعبيراتها في الاستئثار الفئوي وفي الاستبعاد"اللامبالي"لفئة من اللبنانيين، وفي القبول بأحكام وصاية خارجية تقاسمت المغانم مع شركائها المحليين الصغار... لم يجأر أحد بالشكوى من انتقاص السيادة، ولم ينتبه أحد لأحكام الشراكة، ولم يحذر أحد من مخاطر التدويل الذي كان يظلل لبنان، من خلال مظلة إدارة عربية. هذا للقول أن ماضي"السيادة والشراكة والاستقلال"يصفع حاضر الخطب المتمترسة عند هذه المفاهيم، ويحث السامعين على إجراء"دراسة مقارنة"فقط.... من أجل حسن الفهم وحسن الاستدلال، كي لا يصير النسيان"عدة مفهومية"عامة. حدث سياسي آخر، حمله العام ألفين، هو حدث تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي. لقد حمل التعليق على هذا"الإنجاز الوطني"آمالاً، وغذى أوهاماً، لكنه انتهى أخيراً إلى تكريس"العادة اللبنانية"في طلب الثمن الباهظ الداخلي، الذي لا يستطيع الداخل النهوض بأعبائه. في هذا المجال، تكشف شيئاً فشيئاً، أن"صانعي التحرير"ليسوا فرقاء الداخل تحديداً، لذلك كان لا بد من توزيع"جوائز ترضية"على المساهمين... مثلما تبين أن المواقف المتباينة حول المقاومة، سارعت لانتهاز الفرصة للمطالبة بالخروج من"المسار النضالي"الاستثنائي الذي أخضع البلد له، بسبب من واقع الاحتلال لجزء من الأرض اللبنانية. على ما هو معلوم، جاءت الأجوبة على"مطالب البحث"تشكيكية، ورفضت من أصلها، وعلا صوت الإصرار على التمسك"بمفهوم السلاح، وبسلاح المفاهيم"، وتمترس الأهل على ضفتي التفسير والتفسير المضاد، لمقولة المقاومة اللبنانية وأحكامها. على سبيل الاستخلاص الراهن، المستند إلى الماضي أيضاً، يصح القول أن اللبنانيين تبادلوا، في ميدان المقاومة، لعبة تكاذب الخطب، وأداروا تواطؤ المصالح، حتى إذا استنفد الظرف السياسي أغراضه، عادت كل فئة لبنانية إلى مسقط رأسها الأهلي الأصلي والأصيل. هل كان ممكناً للبنانيين أن يبتكروا تسوية أخرى، بعد انجاز التحرير؟ الجواب يأتي من مادة الخيارات المكرسة في الواقع، وليس من باب الاحتمالات الممكنة في الخيال... في هذا المجال يقول الواقع المادي أن اللبنانيين فشلوا في امتحان التسوية هذا، مثلما كان الفشل حليفهم في السابق من المناسبات. كان لحدث اغتيال الرئيس الحريري نفس مفاعيل فرض خيار الانسحاب على الجيش الإسرائيلي من الجنوب، وقد ضُخّ في الوضع اللبناني، احتمال استقامة أوضاعه، بعد خروج الجيش السوري من لبنان. سريعاً اتخذ القيمون على الحدث موقع"الغلبة"، وعلى غير دراية أضاعوا توظيف المناسبة داخلياً، وسعوا، دونما تبصر بحقيقة التوازنات الداخلية، إلى استثمار"نصر"لم يكونوا من صنّاعه الأساسيين، بل إن الفضل الساحق فيه يعود إلى اندفاعة التدويل، التي استفاقت على ضرورة"إنقاذ الجمهورية اللبنانية". مما تقدم، يعود ليقف المراقب أمام حقيقة، أن اللبنانيين قد أمعنوا في مسارهم التفكيكي الذاتي، مما سّهل ويسّهل إمكان"التوظيف الخارجي"المتصاعد لساحتهم. من المؤسف، إعادة استحضار لغة"الساحة" لكن مستوى الإقفال الداخلي لا يسمح بالنطق بغير ذلك، مثلما أن مستوى الانكشاف الفادح أمام الخارج يؤدي إلى الخلاصة ذاتها. بالأمس حاول الوضع العربي مع لبنان، واليوم تحاول فرنسا، ولنا أن نقول حيال كثرة المحاولات الخارجية وديمومتها، أن الخارج سيظل داء لبنان ودواءه... هذا حتى مسلك سياسي داخلي لبناني مؤجل! * كاتب لبناني