سكت مدفع الحرب في لبنان واندلعت نيران السياسة بين فرقائه المتباينين. عاد الوضع اللبناني الى سابق عهده، ساحة للصراعات ومنطقة لتصفية الحسابات، ومع هذه العودة، بدت الوحدة اللبنانية سحابة عابرة في سماء الافتراق المستديم. فجأة، دخل الخارج على خط الداخل اللبناني، وبسرعة، لامست التسرع، استعجل توظيف"الجديد السياسي"الذي أعقب العدوان الإسرائيلي ضد اللبنانيين. كانت تلك صفارة الاستثمار العجول التي أطلقها خطاب الرئيس السوري بشار الأسد. ما يستوقف في الخطاب، ردود الفعل التي أطلقها اللبنانيون حياله، وليس المادة التي صيغ منها، لكن الصعب فك رموز الكلمات المتقاطعة التي تشكل عصب أو جوهر الخطب اللبنانية بقسميها: المرحب والمستنكر. ويقع الترحيب بمضمون ما أدلى به الرئيس السوري موضع افتراق لبناني داخلي، ويغذيه، وينزل استنكار اللغة والتحذير من مراميها منزلة الشقاق بين اهل البيت الواحد اللبناني وينفخ في ناره. لذلك، يمكن القول إن ذلك الكلام ينال من الوضعية اللبنانية، بامتحانه مقدار الوحدة الهشة المتحققة بين اللبنانيين، وبتعريضها لأخطار اضافية، في معرض إعلان الحرص عليها، والدعوة للذود عنها، لا تفسير آخر لتوجيه التهم الى شرائح واسعة من اللبنانيين، لا لشيء إلا لأنهم يقرأون مصلحتهم اللبنانية من منظارهم الخاص، ويفسرون هذه المصلحة وفقاً لمعجم لغوي آخر. الترحيب من جانب لبنانيين، بكلام اتهامي للبنانيين آخرين، ليس لبنانياً، هذا إذا كانت"اللبنانية"رديفة للمصالح الداخلية اولاً، وإذا كانت الوطنية معادلة مركبة بين حدود الداخل وحدود الخارج، بحيث تظل كل علاقة مع أي خارج، عربي أو دولي، خاضعة اولاً وقبل كل شيء لمعايير البنية الداخلية اللبنانية ومصالحها، ومراعية لحدود اندماجها المتحقق، ومساعدة على دفع هذا الاندماج خطوات اضافية على طريق تعميقه وبلورته. وعلى المنوال نفسه، يندرج الاستنكار، الذي يجب ان يكون مقيداً بقيود الحساسية الداخلية ايضاً، التي يدرك اصحابها ان توجيه السهام الى الخارج، خصوصاً السوري، سيظل مقروءاً بصفته إعلان خصام مع فرقاء في الداخل، تنعقد بينهم وبين امتدادهم الخارجي أواصر مصالح تساهم في تشغيل موازينهم الداخلية. تطل بنا هذه المعادلة على مسألة الاستنجاد بالخارج، التي تقلّب جميع اللبنانيين بين جنباتها، واستووا من دون تمييز على مقاعدها... كلما كانت البوصلة تدل على اتجاه المصالح الفئوية الضيقة. إذاً لا مجال لإعلان الوطنية الخالصة، كسمة مميزة لطرف لبناني بعينه، مثلما لا إمكان لإعلان التبعية سمة دائمة من سمات طرف لبناني آخر - لكن يظل المجدي كامناً في التركيز على ضرورة صناعة الوحدة الوطنية اللبنانية، وعلى بلورتها في اتجاه الخارج، الدولي والعربي، في عملية مستديمة، لها محطاتها التسووية الأكيدة بين اللبنانيين أولاً، وحيال محيطهم القريب والبعيد ثانياً، ودائماً على خلفية استيعاب الحراك الدولي، بالتواصل معه وليس بالانقطاع والعزلة عنه، أو بإعلان العداء الدائم، غير المفهوم، له. ويطرح موضوع"صناعة الوحدة"باتجاه محيطها سؤالاً عن كيفية ذلك في مواجهة اسرائيل! يبدو الأمر هنا سهل التوضيح، فمنزلة العدو التي هي واقع اسرائيل، تتيح للبنانيين رسم خطوطهم وفواصلهم حيالها، مثلما تيسّر لهم لغة الإفصاح عن معاداتها وعن سبل مواجهتها. في الظرف الراهن، من البديهي القول ان الترحيب بالقتال ضد اسرائيل قول وحدوي لبناني بامتياز، كذلك احتضان النتائج المترتبة على هذا القول، وتمثلها وإدراجها في مسالك السياسة الداخلية اللبنانية. الالتفاف حول مهمة قتال اسرائيل، بصفتها العدو الوحيد للبنان، لا يعني تبني كل"فلسفة"المبادرين الى هذه المهمة، بل يعني فك عقدة الحذر المتجذرة لدى اللبنانيين، ومسلك الانفصام السياسي الذي ينسبه فريق لبناني الى فريق آخر، بحيث يعتقد هذا أو ذاك، ان"شريكه"في الوطن يعلن غير ما يضمر، ويمارس خلاف ما يقول. للأمر سوابقه الوقائعية في لبنان، حيث الموقف من اسرائيل، ومن العروبة، وما سوى ذلك من قضايا مصيرية - لا يعدو كونه وجهة نظر خاصة بأصحابها! في هذا المجال لا يبدو ان القناعة اكتملت لدى الفرقاء بإعلانات العداء لإسرائيل من جهة، ونهائية الكيان اللبناني من جهة اخرى، لذلك يصير من الأهمية بمكان ممارسة"الوطنية الجامعة"في ميدان المواجهة مع اسرائيل، بصفتها المعادية للعروبة وللكيانية اللبنانية في آن معاً. موقف كهذا، يعد إسهاماً في إنتاج"لبننة"عامة، للمقاومين وللداعمين، ويسهّل التأسيس المطرد للإجابة عن سؤال: أي وطن نريد؟ من الواقعية الاعتراف الاستطرادي هنا، ان الوطن المراد، لن يتجاوز في الظروف اللبنانية المعروفة، واقع الطوائف الثقيل، مثلما لن يستطيع التنكر لحصصها في اية لبننة ممكنة، او الهروب من الأوزان الحقيقية لكل كتلة اهلية طائفية على حدة. يختلف الحال مع سورية، لدى إعادة تحديد الداخل اللبناني حيال خارجه، فإذا كان القطع العدائي هو سمة الموقف من اسرائيل، فإن اللبنانيين مدعوون في الحال السورية، الى تعيين نقاط الوقف اللازمة والضرورية لها، ومثلما هم معنيون بتوضيح همزات الوصل المفيدة والطبيعية التي لا غنى عنها، معها. من نقاط الوقف التي يجب تركيزها بوضوح، رفض التدخل السوري في الشؤون الداخلية اللبنانية. الى ذلك، يقتضي الأمر الدخول في تفكيك منظومة الخطاب السوري، داخلياً. وهنا ينبغي الالتفات الى مفردات سابقة، ما زال لها مفعول"السحر"لدى النظام الحاكم في سورية. حتى الآن يتردد كلام من نوع: نكران الجميل اللبناني! ومبادرة سورية الى نجدة اشقائها في لبنان؟! ووحدة المسار والمصير... وشعب واحد في بلدين... الخ. هذه"المنظومة"تنتمي الى فكر سياسي قومي سقط منذ زمن في دياره... عليه تبدأ همزات الوصل مع سورية من الوضوح اللازم حول كل تلك المسائل، وبالتفصيل المطلوب، انطلاقاً من قاعدة اولى هي ان لبنان بلد سيد مستقل، عروبته حيوية بالتجربة، ومساهمته في الصراع العربي - الإسرائيلي ما زالت الأعلى كلفة، وتجربته في الاستقلال وما الى ذلك، تحترم، وهي موضوع يُستفاد منه، وليست مساحة إملاء لمنوعات من السطور الوافدة من تجارب اقطار اخرى... تأسيساً على ذلك، تصير همزة الوصل الأخرى، سؤالاً عن المصالح السورية المشروعة، وعن كيفية التضامن اللبناني معها. على سبيل المثال، من حق سورية ان تستعيد الجولان وأن ترفض ظلم المجتمع الدولي لها، وأن تعاند طلباته الجائرة. لها على العرب واللبنانيين، واجب التضامن معها في ذلك. هذا أمر مفهوم. ومن حق سورية أيضاً، الانتباه الى سياسات إضعافها والتصدي لها، وسد الثغرات التي يمكن النفاذ منها الى الوضع السوري، ومن واجب الأخوة والأشقاء مؤازرتها في ذلك ومن حق سورية ان يكون موقفها مفهوماً لدى رفعها مطلب استعادة حقوقها الوطنية والسياسية، وأن تؤخذ مطالبتها على محمل الجد، وليس على محمل المناورة، كل ذلك مشروع، ويقتضي دعمه وإسناده، لكن ما ليس مشروعاً هو استعمال الساحات الأخرى، ومنها لبنان اولاً، لتحقيق المطالب السورية الخاصة، حتى لو كانت مشروعة! وفي إزاء ذلك، وفي مواجهة حساسية المواضيع المشارة، نجد الأداء اللبناني غير متناسب مع حجم القضايا. سريعاً نلخص، ان الساسة السابقين، والمستوزرين، والطامحين الى النيابة، والقاعدين في مراكز وجاهة، كل أولئك يعيدون تفصيل المعضلات ومقارباتها على مقاس"طلباتهم الصغيرة"، بينما يظل حساب المصالح العامة هو الغائب الأكبر. حتى إشعار آخر، تظل ممرات وحدة المصالح هي الإطار الضامن لفهم تلاوين الخطب، ولقبول تعدد المقاربات. بكلام أدق، تظل الحرية والديموقراطية مظلة كل وحدة داخلية، وهذه قاعدة ارتكاز لمخاطبة كل الدواخل الأخرى، وفي معزل عن شرط الحرية المجتمعية، سيظل"الاجتماع العربي"محكوماً بأحادية الرؤية، وفردية الخطب، لذلك يظل مهدداً بالقصور عن بلوغ وحدته الناصعة!! * كاتب لبناني