لا تتعجب. أنت لا تحلم ولا تتوهم. نعم انه الواقع. لكن ذهولك مبرر إزاء ما يحصل. لو قيل لك، قبل سنوات، انك ستشهد مثل ذلك الحدث في يوم من الأيام، لما صدقت. لا يخطر لأحد أن أولاداً سيحنّون الى المدرسة، في عزّ الصيف. هذا ما يحصل اليوم... في لبنان. ويحق لك ان تكذّب النبأ أو أن تستغربه. ولكن الأكيد ان شارلومان، مؤسس المدرسة الأولى، سينتشي من السعادة اذا وصله الخبر. سارة 14 سنة وأخوها رايْ 11 سنة، هما من الأولاد الذين يفضلون المدرسة على أوقات"الفراغ"التي يمضونها خلال عطلة الصيف."يا ريت منرجع عالمدرسة"، يتمنى راي."كنا نتسلى اكتر"، تجيبه سارة التي انهت عامها الدراسي منذ أسابيع. ومذ ذاك وهي تشعر بأن الصيفية مؤجّلة. "لا نخرج ولا نعمل شيئاً"، تعلن سارة بنوع من الخجل لأن فتاة بعمرها لا يجب ان تقبع في البيت أيام العطلة. وتروي سارة بحسرة ان هذا الصيف والصيف الماضي كانا مملين جداً، لا سيما أنها اعتادت ان ترتاد مع أخيها مخيماً صيفياً، كل سنة، مع شبيبة القرية. وبسبب حرب تموز الصيف الماضي والأوضاع الأمنية"المهزوزة"كما تصفها سارة نقلاً عن أبيها، هذه السنة، حالت دون إقامة المخيم."ومنشان هيك اهلنا لا يأخذوننا إلى أي مكان، لا مخيم ولا حتى بحر"، تقول متأسفة. ويعتبر راي أن ما يحصل من حروب وتفجيرات خلال الصيف أو قبله، مؤامرة ضد الصيف وفي مصلحة المدارس. ويصرّح بلهجة الفاهم وبهيئة رجل صغير:"كل هذا حتى الأولاد يحبّو المدرسة ويدرسو أكثر... بضجروننا في الصيف كي نشتاق اليها". عائلة سارة وراي، القاطنة في الدكوانة شرق بيروت انتقلت إلى مسقط رأسها في بشمزين شمالاً مع نهاية العام الدراسي ولم تعد تزور بيروت إلاّ نادراً خوفاً من اندلاع"شي حرب"، تؤدي إلى احتجازهم في قيظها ورطوبتها، وتحول دون انتقالهم إلى ملاذهم الآخر."لا نستطيع أخذ الأولاد إلى أصحابهم في بيروت، فإذا عِلْقِتْ وقعت حرب، نبقى تحت. نحن هنا نشعر بأمان"، يبرر جورج وازن، والد الطفلين. وإذا كان الملل يطبع حياة سارة وراي، فإن"القرف"هو ما تشعر به رنا 13 سنة التي تقطن شارع فردان في بيروت. اشمئزاز رنا ناتج من"الحبس"الذي تعيش فيه في منزلها، إذ لا يسمح لها والداها بالخروج مع صديقاتها بمفردهن ألى السوق أو البحر أو"المولات". وتشرح رنا:"إذا بدنا نروح عَ المول، تأخذنا الماما ولا تتركنا نبقى وقتاً طويلاً". تضغط على جهاز"الريموت كونترول"الذي لا يبارح يديها، منذ انتهاء المدرسة، ثم تضيف:"والأقرف من هذا كله، أننا لم نعد نذهب حتى إلى السوق"، تتأفف رنا. وتتذمر من أن"الضَهْرات"المشاوير تقتصر على مشاريع عائلية، إمّا غداء عند أولاد عمّها أو سهرة عند بنات خالها."صحيح أن هناك من هم من عمري، لكننا نضجر بين أربعة حيطان. وتتدخل والدتها معلّقة"معليش ماما، مش أحسن ما تموتي بشي إنفجار؟". دافيد 12 سنة لا يزعجه سوى أمر واحد، وهو قرار أهله منعه نهائياً من ارتياد دور السينما، لارتيابهم من الاشاعات التي تطلق حول زرع العبوات في المجمّعات."أنا أنتظر الصيف كي أسهر ليلاً وأذهب إلى السينما مع أصحابي"، يروي دافيد. ثم يردف قائلاً والغصّة في حنجرته:"كنا بقينا في المدرسة... لشو منفرّص؟"، ويتطلّع إلى صديقه جُو 13 سنة بقربه، وهو يعاني مشكلة مماثلة مع ذويه، فوجد في دافيد خير مواساة. إلاّ أن حساسية ذويه، هي على البحر. فجُو، محروم حالياً من هوايته المفضلة، السباحة في البحر، لأن"أهلي يقولون إن البحر ملوّث من حرب السنة الماضية"، يقولها من غير اقتناع."ما عندنا شي أنا ودافيد. نبقى معاً، نتنزّه في القرية ونزور أصحابنا هنا". يسكت ثم يضيف بصرخة مكتومة"وهذا كل شيء". في حين يظهر الملل والاستياء بوضوح في حديث دافيد وجُو وسارة ورايْ، تبدو جنى 11 سنة راضية عن عطلتها..."ما شي الحال"، كما تقول، من دون أن تخفي استياءها من إقفال المطاعم في وسط بيروت، لأن والدها تعوّد أن يأخذ العائلة إلى هناك في الصيف. ولكن على رغم مخاوف أهلها من الأوضاع، تشتكي من الملل والبقاء في البيت، بعدما اشترى لها ذووها"دي في دي"و"أي بود"و"أم بي 4"واشتراك بخدمة إنترنت سريعة... تلبية مسبقة لطلباتها، وقطعاً للطريق أمام خروجها. نجحت خطة الوالدين. وصار أصدقاء جنى يتوافدون إلى منزلها ويتسلون"بأشيائهم الجديدة"، فيصرفون نظرهم عن الخروج. لكن رامي 15 سنة مستاء إلى أبعد الحدود، لكن استياءه له أسباب أبعد من مجرّد التسلية واللهو. رامي كان موعوداً بالشغل في أحد المطاعم في بيروت،"لكن أبي لم يعد يقبل أن أبقى وحيداً في المدينة"، يقول بحنق. اضطر رامي إلى الانتقال إلى بيت الجبل بعد أن خاف والده"فجأة"من تدهور الأوضاع في بيروت، وفضل جمع أفراد أسرته في مكان واحد. ولا يقبل رامي العمل في مطاعم القرية لأن"الشغل خفيف"، كما يلاحظ. فيمضي وقته بالتسكّع مع شباب الضيعة، بعد أن خسر حلمه بالاستقلالية والاتكال على الذات، لو مكث بمفرده."كنت بقيت في المدرسة بالصيف، على الأقل أعمل شيئاً مفيداً. فالآن، لا تسلية ولا شغل... ولا حتى درس"، يختم متذمّراً.