يمكننا القول أن جوهر الخطاب العربي في عصر النهضة أو في الفكر العربي الحديث كان خطاباً في الهوية من نحن؟ ومن نكون؟ من هو الآخر؟ وما هي طبيعته وماهيته؟ وماذا نريد من هذا العالم؟ وماذا يريد الآخر أو العالم منا؟ ومن هذه التساؤلات صاغ الفكر العربي الحديث اشكالياته ومفاهيمه الثنائية الضدية كالأنا والآخر، الشرق والغرب، الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة وغيرها، والتي في جوهرها تساؤل في ماهية الأنا والآخر قديماً وحديثاً، الأنا الذي يسكن الآخر، والآخر الذي يسكننا من خلال الاختلاف والتعدد والتباين الفكري والسياسي والديني والعرقي. وعليه فقد صعّد المفكر النهضوي قلقه الوجودي ووعيه الشقي باتجاه كيف نواجه التحدي؟ وما هي الرابطة أو العلاقة القادرة على نظم وتنظيم علاقاتنا الداخلية والخارجية؟ وكيف يمكن صياغة هوية أو ماهية ثابتة مبسطة للأنا؟ تكون كالتعريف المنطقي جامعة مانعة على رغم الواقع المركب والمعقد الذي لا يمكننا الاستغناء عن احدى مفرداته من دون الإخلال بالكلية الشاملة. لقد كانت حملة نابليون بونابرت على مصر والشام سنة 1798 فاتحة التغير والتبدل في حياة المشرق العربي، أو ما يسمى بعصر العربية، فقد تعرض المشرق العربي لهزة حضارية عنيفة أيقظته من رقاده الطويل، ووضعته وجهاً لوجه أمام الآخر، أوروبا أو الغرب الذي قطع شوطاً طويلاً في مسيرته الحضارية التي لم يحسبها الشرق أو لم تخطر في ذهنه. وكانت أوروبا قبل ذلك بمئات السنين، منذ القرن السادس عشر قد أدركت خصوصيتها وذاتها الحضارية العرقية، كياناً مسيحياً آرياً بتراثه الروماني واليوناني مقابل الشرق وأصبحت ضفاف المتوسط خطوط التماس والمجابهة الحضارية والثقافية الكبرى. ومنذ ذلك الوقت والعرب يحاولون صياغة هوية حضارية لرد التحدي الغربي واعادة التوازن للذات، من خلال أشكال الوعي والروابط الاجتماعية والسياسية القائمة. فقد تعرف العرب على ذاتهم أولاً كشرقيين، أي أبناء الشرق مقابل أبناء الغرب الفرنجة، وأصبحت التسميات شرق غرب فضاءات حضارية ميتافيزيقية تجاوزت دلالتها الجغرافية، ولم يتوافر للعرب وعي قومي أو وضعي خاص بهم في هذه المرحلة، فقد كانوا مندمجين في الأخوة الإسلامية العثمانية، فوعوا ذاتهم كشرقيين عثمانيين مسلمين، لأن الدين كان وما زال في المجتمعات التقليدية مصدر الثقافة والهوية، ولا يمكن تجاوزه فكرياً ولا مادياً، أي: لا يمكن تجاوز القوى الدينية، المعبرة عنها الهوية بالحلقات الصوفية والتدين الشعبي وعلماء الدين وغيرهم. فقد اعتبرت الدولة العثمانية نفسها دولة اسلامية تحمي حمى الإسلام والمسلمين، والمسلمون أمة واحدة وعليها مقارعة الديانات الأخرى، والحذر من أصحاب المذاهب والأقليات الدينية، الذين جعلتهم في شكل أو آخر مواطنين من الدرجة الثانية، على رغم مراسيم الإصلاح والتنظيمات التي حاولت قانونياً تحقيق المساواة بين المواطنين جميعاً بصرف النظر عن الدين. وعلى هذا الأساس فقد تركزت مطالب وأسس الإصلاح والنهضة عند المفكرين النهضويين على أسس دينية اسلامية، من خلال اعادة الاعتبار للإسلام، والتمسك بأركانه وتعاليمه، فدعا جمال الدين الأفغاني الى الوحدة الإسلامية لصد الهجوم الغربي الذي اتخذ أشكالاً متقدمة سياسياً وثقافياً وعسكرياً، وتزامن هذا الوعي بالوعي بطبيعة الآخر، فالغرب كان وما زال مصدر التهديد والاستعمار والحرية والتقدم. وأصبح جوهر الإصلاح وحركات النهضة هي رد التحدي الغربي المزدوج الاستعمار والعلم والحرية. وأصبح وعي الآخر مصدراً لوعي الذات الشقي، الذات التي ما برحت تحاول التنصل من أعباء الحقيقة الوجودية للغرب كبنية مركبة كلية تنطوي فيها المراحل والتيارات والتوجهات المختلفة التي تفوق قدرة رجال النهضة على تمثلها في حقيقتها الجدلية التاريخية. وسار على نهج جمال الدين الأفغاني دعاة الإصلاح الديني في مصر وبلاد الشام، الذين بلوروا وعياً ذاتياً دينياً، وتعرفوا على ذاتهم كمسلمين، وتخيلوا العالم عالماً دينياً ينقسم بين المسلمين والمسيحيين وأصحاب الديانات الأخرى، وهو العالم العثماني ضيق الأفق الذي صنف الناس وقسمهم الى ملل وطوائف في نطاق دولة مركزية ومجتمع انقسامي صنفهم اجتماعياً ودينياً بحسب طوائفهم ومذاهبهم ونقاباتهم الحرفية، وعليه فلم يكن هناك حرية فردية أو مواطنة، وبقيت الأقليات المسيحية في الشرق العربي خارج الإطار العام الموحد للعرب والمسلمين، وبالتالي فقد استثنى التيار السلفي قوى اجتماعية فاعلة كانت قادرة على التقدم والتغيير وأثبتت فيما بعد ديناميكيتها الفاعلية كأقلية مبدعة في تشكيل التيار الليبرالي، وتنويعاته القومية والماركسية والعلمانية والوطنية من مسيحيي لبنان وسورية. ومع تزايد التناقضات الداخلية في جسم الدولة العثمانية وتبلور دولة محمد علي وخلفائه من بعده في مصر، كياناً سياسياً قائماً بذاته يتمتع بشخصية مستقلة استقلالاً شبه تام عن الدولة العثمانية، وانفجار الصراعات الاجتماعية والدينية في لبنان وسورية، إضافة الى الاستبداد الحميدي العثماني، كل ذلك شكك بجدوى الهوية الدينية هوية ناظمة للنسيج الوطني والقومي، وبقدرتها على استغراق الذات بكليتها وبفاعليتها، فظهرت الاتجاهات الوطنية حيث تعرف العرب على ذاتهم من خلال كياناتهم السياسية التي لم تتشكل أو تتبلور بعد بخاصة في سورية ولبنان ومصر الى حد ما. فقد دعا الشيخ رفاعة الطهطاوي الى الوطنية المصرية، وحب الوطن الذي لا يناقض الوحدة الدينية، وكان هذا الشيخ القادم من فرنسا قد نقل عن وعي أو لا وعي معاني الوطن والوطنية، ومبادئ الثورة الفرنسية بالحرية والمساواة. وشكل تيار الوطنية المصرية من الشيخ الطهطاوي وعبدالله النديم الى زعماء ثورة 1919، والنضال من أجل الاستقلال، شكل وعياً ذاتياً وهوية وطنية مصرية قبل ادراكها ذاتها في عروبتها وقوميتها العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. وكان لتفتح الوعي الذاتي في الحركات القومية في العهد العثماني بداية الشعور القومي، ونشوء وعي عروبي قومي على أسس دينية لم يقطع جذوره الدينية إلا في ما بعد، أي في القومية العلمانية، عند ساطع الحصري، وأصبح الشيخ عبدالرحمن الكواكبي رائد الاتجاه العروبي حلقة الوصل بين السلفية والإصلاح الديني من جهة والفكر القومي من أخرى. وتبلور وعي العرب في هذه المرحلة وعياً قومياً بنشوء الحركات والأحزاب والإيديولوجيا القومية، وتحولت اللغة العربية من أداة اتصال بين الشعوب العربية كما يقول عبدالعزيز الدوري الى رابطة قومية اجتماعياً وسياسياً عززت الشعور القومي، ومنحت الحركة القومية العاملة على استعادة الوحدة العربية والماضي التليد ركيزة ثقافية مهمة. وجعلت الدين من أركانها وليس من شروطها أو مستلزماتها. وفي مرحلة التحرير والاستقلال كان على العربي أن يبلور هوية مزدوجة من مركبات عدة متنافرة، فقد كان عليه أولاً أن يعي ذاته في إطاره الوطني القطري الجديد، الذي اتخذ شكلاً مستقلاً، وكياناً سياسياً بمعزل عن محيطه العربي، وفي الوقت نفسه كان عليه أن يتمسك بشعاراته القومية التي لم تعد تطابق الواقع، ولم تدرك الإيديولوجيات القومية والعلمانية في الدولة القطرية أن وعيها القومي أو هويتها التي تتبناها لا تمثل أو لا تستوعب كل المكونات الاجتماعية، فقد بقيت الهويات المذهبية والاقليمية والطائفية والولاءات والانتماءات الجهوية في أشكالها الماقبل قومية فاعلة في النسيج الاجتماعي والوعي الذاتي، ولم تستطع عمليات التوحيد والدمج العرقي والقومي تكوين هوية شاملة، ولا تزال الهويات الأخرى التي استتبعت وتقهقرت الى مواقع شوفينية انعزالية قادرة على التعبير عن ذاتها من جديد بمنتهى الشراسة والقسوة في عصر صراعات الهوية والعصبيات المذهبية، ما أثبت الصراعات السياسية الدامية في أكثر من بلد عربي. وازداد الوعي العربي شقاء في ما بعد، تحطمت أحلامه القومية بالوحدة والتقدم، وانخرطت كياناته القومية داعية التحرر والنهضة في ممارسة فئوية استبدادية جردتها من المسؤولية والمشروعية التي ألقتها على ذاتها في مرحلة سابقة، وفي ذروة الأزمة وبعد الهزائم العسكرية والسياسية، انبرت تياراتها السياسية والايديولوجية في حملة نقد ذاتي ومراجعة لإضفاء بعض المعقولية والإجرائية على شعاراتها الفضفاضة، فتخلت عن أحلامها التوحيدية وطعَّمت أفكارها بمضامين وأفكار ماركسية كانت تشكك قديماً بصدقيتها، وتعتبرها خطراً يهدد القومية العربية بدعوتها الأممية التي تتجاوز الحدود والأوطان، مؤامرة خارجية على الهوية العربية، وكانت رفعت شعاراً لا شيوعية ولا استعمار، ووضعت الآخر بصرف النظر عن ماهيته أو تباينه وعلاقته بالأنا في سلة واحدة، وواصل الخطاب القومي الإصرار على انتاج هوية متجانسة متوحدة بذاتها، تكون كلية متعالية على الشعوب والأقطار والأفراد، أي مهمشة للانقسام والتباين والتعدد من خلال الدولة الوطنية القطرية التي تصورتها الحركات القومية على غرار الدول القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر، خصوصاً المانيا وايطاليا، أي الدولة الأمة التي تضم في كيانها جميع الناطقين بلغتها. إلا أن الدولة القطرية القومية فرضت نفسها مركزاً موحداً للولاء والانتماء، وأشاحت بوجهها عن الأقليات، وهمشت دورها في الحراك السياسي والاجتماعي لافتقارها لمحتوى ديموقراطي في الفكر والممارسة، تعالت على الواقع المعقد الذي يحتاج لهوية مركبة حتى تكون مطابقة للواقع. إلا أن الذات العربية في تحولاتها ومجابهتها للتحديات لم تعد قابلة على التعيين والتنميط والاختزال بهذا الشكل الكلي إلا في تصنيف شامل للأنا والآخر لأهداف وأسباب إجرائية تتعلق بالتمييز والتعرف على خصوصيات ومكونات الثقافات والحضارات الأخرى في مقابل حضارتي وثقافتي أنا. وعليه فقد دخل خطاب الهوية في أزمة بنيوية لأسباب عدة منها: 1 - فشل المقولات التقليدية القومية والسلفية في تحديد هوية جامعة مانعة للأنا، قادرة على التجدد واحتواء الاختلافات والتباينات. 2 - تعزيز دور الدول والكيانات القطرية العربية التي أصبحت واقعاً راسخاً لا يمكن تجاوزه بالشعارات القومية، بل إن الكثير من الكتّاب والمفكرين العرب يعتبرها محطة مهمة لا بد من تقويتها وترسيخها والمرور عبرها لإقامة الكيان الوحدوي، كما يرى المفكران العربيان الجابري والأنصاري. 3 - شكلت الهوية العربية عبئاً على ذاتها في عالم يموج بالتغيير والتقدم، فقد انبرى ? وما زال ? خطاب الهوية العربية على الاستعانة بالتاريخ لتأصيل وتأكيد جدارتها من خلال التنويه الذاتي الدائم بحضارة العرب والمسلمين، وتأثيرها في أوروبا والغرب.