لم يخب ظن أولئك المحللين الذين وصفوا فوز حركة "حماس" الكاسح في الانتخابات الفلسطينية التي جرت يوم 25 كانون الثاني يناير 2006 بأنها كانت تسونامي سياسياً، لا في فلسطين فحسب، بل في عموم المنطقة، فبإمكانهم اليوم أن يبرهنوا على صواب استنتاجاتهم تلك، من خلال نتائج تلك الانتخابات، والتي توجت أخيراً بالأحداث المرعبة التي ضربت غزة. كان أكثر ما أعطى تلك الانتخابات تسميتها الاعصارية تلك هو ذلك الاكتساح الهائل لحركة"حماس"لمقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني. كانت كل التقديرات تؤكد أن هذا المد الكاسح سيزلزل الارض الفلسطينية، وسيبقيها في عين الاعصار لسنوات طويلة، أولاً بسبب التناقض الفاضح بين برنامج الحركتين، وثانياً بسبب انكشاف الواقع الفلسطيني المطلق، واختراقه، وافتقاده لعناصر الحماية السياسية والاجتماعية وللمناعة الداخلية. ولم يكن تسونامي فلسطينياً فحسب، بل كان عربياً وبجدارة أيضاً، فقد طرح على العالم العربي جملة تساؤلات وتحديات، سواء ما كان يتعلق منها بعلاقة فوز"حماس"بتنامي دور حركات الاسلام السياسي وصعودها الانتخابي وأثر ذلك في زيادة الضغوط من اجل انجاز التحولات الديموقراطية والاصلاحات المطلوبة، وكذلك تصاعد دور التيارات الاسلامية الراديكالية، وإعادة انتاجها، ودخولها معترك الصراعات السياسية والاجتماعية في المنطقة، ومن بينها الصراع العربي - الاسرائيلي، في ظل عجز تام للأنظمة العربية والتناقضات العربية البينية تجاه هذه القضايا. اضافة الى كل ذلك فقد أجج فوز"حماس"الضغوط والتدخلات الخارجية، المتناقضة أحياناً، بشأن قضايا الاصلاح في العالم العربي، والتي اصبحت منذ زمن أحد أهم البنود على اجندة علاقات المنطقة بالعالم الخارجي. هكذا كانت النظرة الموضوعية والمنصفة لفوز"حماس"، في انتخابات اقر الجميع بأنها كانت نزيهة وديموقراطية ومعبرة عن ارادة وآمال الفلسطينيين، في مرحلة من حياتهم راهنوا فيها على الخيار الاخير المتاح لإخراجهم من محنتي الاحتلال البشع ونظام سياسي موغل في الفشل والعجز وسوء الادارة والفساد. لقد اظهر الفلسطينيون، وعلى رغم ظروف الاحتلال القاسية، في تجربة تكاد تكون فريدة في عالمنا العربي، قدرة على معاقبة النظام الحاكم، واعطوا بذلك درساً ان التغيير السلمي ممكن. لكن ذلك كان نصف الكأس، اما نصفها الثاني، فقد ظل مؤملاً ان ترتقي"حماس"الى مصاف المعاني الحقيقية للديموقراطية، وان تضع شعاراتها التي جاءت بها الى السلطة، موضع الاختبار الحقيقي، كحكومة مسؤولة، لا ان تظل تتصرف بالعقلية الفصائلية والميليشياوية. لقد كانت المخاوف الاساسية التي رددها المتشككون هي ان"حماس"ستبرهن مرة أخرى على ان الاسلاميين لا يؤمنون بالديموقراطية، وانها بالنسبة لهم مجرد مطية يركبونها للوصول الى السلطة. ولم يكن الواقعيون اقل تشككاً، لكن كان يحدوهم أمل بأن خصوصية الوضع الفلسطيني ستحتم على"حماس"ان تتصرف بطريقة مغايرة، وأن لا تبرهن على خطأ هذا النظرية فحسب، بل ان تقدم نموذجاً اسلامياً بإمكانه ان يتعاطى مع التحديات الكبرى التي تواجهها المنطقة. كانت امام"حماس"فرصة ذهبية لكسر تلك الحلقة المفرغة من الصراع في المنطقة، بين قواها السياسية والاجتماعية والفكرية المختلفة من ناحية، والصراع على المنطقة وعلى مستقبلها، بل على وجودها، من جهة ثانية. لكن ما حصل زوّد المشككين والواقعيين مرة اخرى، بأدلة عينية قاطعة، بأن لا أمل يرتجى، ليس فقط من الإسلاميين المعتدلين، ولكن من صناديق الاقتراع ذاتها، التي تأتي بهم الى السلطة. فمن بإمكانه في العالم العربي ان ينسى بعد اليوم مشاهد الرجال المقنعين والملفعين بالسواد يحملون بنادقهم وهم ينقضون على مواطنيهم، ويقودونهم في شوارع غزة وحاراتها قيد الخراف، او يعرونهم من ثيابهم، امعاناً في الاذلال والاهانة؟ أي بيت، او أي انسان عربي، سيجد بعد اليوم أمناً واطمئناناً وهو يرى ميليشيا مسلحة تابعة لحكومة تدمر قواها الامنية النظامية وتستولي على مقراتها، بل تحطم مكاتب الرئيس الذي لولا قراره لما كانت هناك انتخابات تأتي بها الى السلطة؟ وايضا ألا يذكّر ما جرى في غزة بالاحتلال، سواء الاسرائيلي لفلسطين او الاميركي للعراق ويدفع الى عقد مقارنة بين احتلالين، اجنبي ووطني؟ ومنْ من العرب لن يعقد مقارنة بين احتلال القطاع عام 1967 و"غزوة غزة"عام 2007 ألم يسموها التحرير الثاني، وبين سياسة كسر العظام او هدم البيوت والمزارع بالجرافات على الطريقة الاسرائيلية، وبين الاعدامات العشوائية واستباحة الدماء كما حصل على ايدي ابناء الوطن الواحد؟ ومن يستطيع أن يقول بعد اليوم ان يقول ان سجاني ابي غريب الاميركيين هم وحدهم الذين قاموا بتعرية ضحاياهم العراقيين وامتهنوا كرامتهم؟ وكذلك من سيكون قادرا بعد الآن أن ينحى باللائمة على الميليشيات في العراق حين يمعن الفلسطيني في قتل اخيه الفلسطيني الذي يشاركه الدين والمذهب والانتماء الى وطن واحد، وايضا مهانة الاحتلال وقهره؟ ومن في هذا العالم العربي المتنوع الاديان والطوائف والاعراق والمتعدد الانتماءات السياسية والثقافية سيأمن بعد الآن الى ان انتخابات ديموقراطية يتمناها سوف لن تأتي بميليشيات دموية مماثلة تعامله كما عامل مجاهدو"حماس"مناضلي"فتح"؟ هل راودت كل تلك الأسئلة قادة"حماس"، او المنظرين لها، وهم يعلنون"النصر"في غزة، ام ان"النصر"باغتهم كما باغتتهم نتيجة الانتخابات الكاسحة التي جاءت بهم الى السلطة؟ ثم ماذا عن تأثير الوضع الجديد على مستقبل الصراع مع اسرائيل؟ ربما ظنوا ان كل ذلك الذي حصل وما سيحصل هو مجرد اعراض جانبية او من باب"الضرورات التي تبيح المحظورات"، وفي سبيل الوصول الى الهدف الاسمى الذي ناضلوا من اجله وهو تحرير كامل التراب الفلسطيني. وربما سيفند قادة الحركة مقولة التغير الجيوسياسي الحاصل في الفصل النهائي بين القطاع والضفة الغربية ونهاية الحلم الفلسطيني بوطن موحد بين جناحيه، بأنه مجرد مضاعفات طارئة ووقتية على طريق التحرير النهائي. وربما حسبوا ايضا، أن احدى نتائج المغامرة عندما تكتمل فصولها هو دفع المنطقة الى حال المقاومة من خلال تثوير مجتمعاتها وبالتالي تعميم الحالة الجهادية فيها، ومن ثم انجاز المشروع الاسلامي، سواء لأسبقية الهدف بالنسبة الى حركة اسلامية، او لكونه المقدمة الضرورية لتحرير فلسطين، وهي استراتيجية مماثلة لمقولة القوميين قبلهم بأن الوحدة العربية هي الطريق الوحيد لتحرير فلسطين. ليس بإمكان أحد الآن ان يدرك ماذا كانت حسابات قادة"حماس"حين قاموا بذلك الانقلاب الاستراتيجي في المنطقة التي تشهد واحدة من اكثر فتراتها صعوبة وتدفع بها اعاصير تسونامي عديدة نحو المجهول. هناك تساؤل آخر، وهو عما اذا كان قرار الانقلاب الذي اتخذته قيادة"حماس"بشكل واع وبملء ارادتها، ام ان الأمر جاء في سياق تحالفاتها الخارجية والصراعات الداخلية، وفي اطار بيئة محلية واقليمية ودولية ملغومة؟ مهما كانت التفسيرات والتبريرات فان اتجاه الاحداث يشي بأن"حماس"تنفذ الآن عملية انتحارية على نطاق أوسع. انها تبدو وكأنها تسوق شعباً بكامله، بل أمة بأكملها، الى عملية انتحارية ليس على مستوى تكتيكي، كتلك التي ظلت تقوم بها طيلة سنوات طويلة، بل على مستوى استراتيجي وتاريخي. انها مراهنة ليست محفوفة بالمخاطر فقط، بل بالفشل، وستقضي على اي أمل، لا للقضية الفلسطينية وحدها، بل لمستقبل المنطقة ووجودها. من الصعب ان يرى المرء ايضا في المعالجة العربية للوضع الفلسطيني منذ الانتخابات الفلسطينية، مروراً بالاقتتال الفصائلي، وحتى استيلاء"حماس"المسلح على غزة، ما يبرهن على حصافة وبُعد نظر. فقد مارست السياسات والديبلوماسيات العربية العادات القديمة البالية نفسها في الانتظار حتى تتعمق الازمات، ثم ولوج درب المساومات والاغراءات والصفقات التي تحمل في طياتها فتائل الإشعال، لكي تتفجر مرة ثانية وعلى نطاق أوسع. الأزمة هذه المرة تطرق بشدة على ابواب الدول والمجتمعات العربية الرئيسية بحكم أبعادها الجغرافية وتشعباتها الاقليمية وارتباطها بأزمات المنطقة الكبرى الاخرى. اذا فشلت الانظمة العربية في حل الازمة الحالية فإنها بالتأكيد ستلبس الحزام الناسف الذي اهدتها اياه"حماس"ولكن ليتفجر في عملية انتحار جماعي وسط الشوارع العربية هذه المرة. * كاتب عراقي.