حرصت حركة"حماس"منذ وقت طويل على عدم المشاركة في العمل السياسي الفلسطيني انطلاقاً من قناعات عقدية وايديولوجية معينة تحكم توجهاتها وأسلوب تعاملها مع إسرائيل، والذي يختلف عن أسلوب السلطة الوطنية الى أن حان التوقيت النضالي الملائم ووجدت أن وجوهاً وسياسات قد اينعت وحان قطافها، فاختارت هذا الظرف للانخراط في العمل السياسي الفلسطيني وحققت هذا الفوز غير المسبوق. كتب الكثير وسيكتب أكثر في محاولة فهم وتفسير واستيعاب هذا الزلزال الحماسي. ويبقى الكثير من الكلام الذي يمكن ويجب أن يُقال في الانجاز الذي حققته حركة المقاومة الفلسطينية، هذا الانجاز - الحدث والتداعيات التي تنسحب على ما جرى لهذا التحول من حركة اعتراضية الى قوة تغيير شديدة الزخم انتقلت بين ليلة وضحاها الى سلطة ستواجه أكبر وأخطر انعطافة تاريخية في مسيرة النضال الفلسطيني. ولا بد من الاثبات والتأكيد في البداية أن الشعب الفلسطيني قدّم للعالم أجمع نموذجاً حياً وحضارياً في الديموقراطية الحقيقية رغم كل الظروف المأسوية المعلومة في ظل الاحتلال الإسرائيلي الذي باغته هذا الانتصار"الحماسي"، كما باغت العديد من الأطراف، ومن بينهم حركة"حماس"نفسها ربما. وفي العوامل الرئيسية والبارزة التي أدت الى فوز"حماس"بهذه الكثافة من التأييد الشعبي والسيطرة المطلقة على المجلس التشريعي، واستطراداً واقع السلطة التنفيذية، سواء استأثرت بمفردها في الحكم، وهذا من الأمور الخاطئة كلياً إذا ما اراد البعض من الصناع الجدد للقرار الفلسطيني، أم اشتركت عناصر من فصائل أخرى أو مستقلين. وحصراً للموضوع - على ايجاز هذه العوامل كالتالي: سياسة أميركية مفرطة في انحيازها لإسرائيل وفي عدمية الإقدام على أي تحرك يحمل بعضاً من التوازن أو اعتماد مواقف فيها بعض الانصاف لمصير وقدر الشعب الفلسطيني رغم أن الرئيس جورج دبليو بوش كان الرئيس الأميركي الأول الذي يدعو بصورة خطية أو شفهية لإقامة دولتين متجاورتين تعيشان بسلام: الدولة الفلسطينية والدولة العبرية. والعامل الثاني في حصول حركة"حماس"على قوة الدعم الكاسح يعود الى ممارسات الاحتلال الإسرائيلي واعتمادها سياسة القهر والقمع والحصار وبناء الجدار الفاصل وكم تطول لائحة العبث الإسرائيلي بمصير الشعب الفلسطيني. أما العامل الثالث وهو فلسطيني بحت، يندرج في إطار حال الترهل التي اصيبت بها حركة"فتح"بعد أربعين عاماً من مسيرة نضالية طويلة حفلت بالكثير من الأخطاء من دون أن تكلف أقدم حركة فلسطينية عناء اجراء مراجعة لأعمالها وممارساتها أو عملية تقويم موضوعية لنقد الذات حتى بلغت الآن مرحلة جلد الذات من قبل أنصار البيت الفتحاوي نفسه، بالإضافة الى الاشكاليات العديدة التي حفلت بها فترة تولي"فتح"مؤسسات العمل الفلسطيني منذ قيام منظمة التحرير الفلسطينية وحتى اليوم. وبالنسبة الى العامل الأول، فإن النتائج التي حققتها"حماس"في الانتخابات الأخيرة قدمت نموذجاً رائعاً عن الديموقراطية، الأمر الذي أحرج الإدارة الأميركية ورجالاتها من محافظين قدامى أو محافظين جدد. وهذه ديموقراطية من صنع محلي وليست مستوردة. ومرة أخرى تبرز ازدواجية المعايير لدى الجانب الأميركي فهو يقبل النماذج الديموقراطية أن تفرض في المنطقة، لكن عندما تبرز ديموقراطية من قلب فلسطين تصبح غير مقبولة. والرئيس بوش عليه أن ينشر خطته التبشيرية لدمقرطة المنطقة ليس من العراق، كما راهن عند غزوه، بل ان الدعوة الى نشر مثل هذه الديموقراطية يمكن أن يقتبس من الاسلوب الفلسطيني. لكن جواب الإدارة الأميركية على فوز"حماس"الكاسح كان رفضاً للنتائج التي فرزتها صناديق الاقتراع، بل وقطعاً للمساعدات المالية عن الشعب الفلسطيني إذا لم تغير"حماس"من طروحاتها. الأمر لا يحتاج الى كثير من الذكاء لفهم بعض الغباء الأميركي في تعاطي صنّاع القرار في واشنطن هو الحرص على مصلحة إسرائيل وأمنها وسيادتها. ولدى الخوض أكثر فأكثر عمقاً ودراسة للانقلاب"الحماسي"، نكتشف أن غالبية الشعب الفلسطيني بتصويتها الكبير لحركة"حماس"إنما تصوّت لفرض شروط أكثر ملائمة للجانب الفلسطيني في مسألة تفاوضية مع إسرائيل. لأن التحجر الشاروني وعدم رغبته في منح فرصة حقيقية واضحة للسلام، وحتى عدم اعتبار السلطة الوطنية كشريك لصنع السلام، أدى بهذه الأكثرية لأن تمنح فصيل"حماس"موقعاً متقدماً ربما سيكون باستطاعته فرض شروط أفضل وأقوى مما كان عليه الحال من ذي قبل. وفوز"حماس"بالحجم والشكل والطريقة التي تم بها كلها عناصر بداية مرحلة وليس نهاية لها. فالكثير من الصعوبات تعترض"حماس"بدءاً من المشاركة في الحكومة العتيدة الى مواجهة العالم بأجمعه الذي دان ويدين المواقف التي استمت بها حركة"حماس"وفي طليعتها عدم الاعتراف بإسرائيل. ومن هذا المنطلق تبدو"حماس"أمام الاختبار الكبير في كيفية التعامل مع الوقائع. وأكدت تصريحات قادة الحركة من خالد مشعل الى اسماعيل هنية ومحمود الزهار بروز نهج جديد في خطاب جديد يؤمل بأن يخفف من الأجواء المعادية التي استقبل بها فوز"حماس". فعندما تؤكد وجوه"حماس"على القول إنها ستحترم المعاهدات الموقعة مع الجانب الفلسطيني، وانها منفتحة على مناقشة كل الأمور بصراحة بعيدة كلياً عن"الغموض غير البناء"الذي باعته إسرائيل الى الطرف الفلسطيني وعوداً عرقوبية لم تجد نفعاً، الى درجة أن وزير الحرب شاؤول موفاز اشاد بهذه التصريحات والمواقف"الجديدة"من قبل قادة"حماس"ووصفها بأنها عقلانية وتستحق الدراسة العميقة. ان فوز"حماس"هو انجاز نضالي ليس باستطاعة أحد أن يقلل من أهميته أو يخفف من فعاليته. والمهم في الأمر هو معرفة كيفية توظيف هذا الانجاز بالثمن الباهظ الذي دفع لبلوغه بشكل يؤمن معه نقل القضية الفلسطينية من الدوران في الحلقة المفرغة الى محطات واضحة المعالم ومحددة الأهداف. لقد وصف ديبلوماسي بريطاني عريق ل"الحياة"بأن فوز"حماس"أحدث نوعاً من"الصدمة والترويع"، وهذا التعبير ذكره قائد القوات الأميركية الجنرال توم فرانكس عقب دخوله بغداد، وكان يشير بذلك الى أن الهدف المقصود لن يكون مقتصراً فقط على العراق، بل هي رسالة واضحة الى دول الجوار لأخذ العبرة. وفي سياق وضع تداعيات الزلزال السياسي الذي حدث في فلسطين في إطاره العام، يمكن ترجمة التغييرات الدراماتيكية في انتخابات فلسطين أنه انتصار لقوى الرفض والممانعة ضد ما يطلق عليه بالخطط الأميركية المعدة للمنطقة، وهذا يعني بالتالي أن القرارات التي تتخذها واشنطن وتحاول فرضها بالقوة على الآخرين ليست بالقدر الحتمي الذي لا يمكن مواجهته. ومثل هذا الطرح يعني تكتل مجموعة من القوى والأطراف التي تعتبر في صفوف"الدول الممانعة"في إعلان تسجيل نقاط لصالحها ضمن إطار المنازلة القائمة بين أميركا ودول أخرى في المنطقة. وهذا التفسير ينسحب بالتأكيد على محور طهران - دمشق و"حزب الله"، بالإضافة الى تراجع محاور أخرى الذي يعتبر أنه وجه ضربة للسياسة الأميركية في المنطقة. ومع كل ذلك فإن المتابعة لشؤون وشجون المنطقة بحاجة الى فترة زمنية ليست قصيرة لاستيعاب ما حدث على غير صعيد وفي أكثر من دولة. وهناك اعتقاد بدأت تتبلور ملامحه منذ الآن كخطوة استباقية، رداً على الحرب الاستباقية التي شنتها القوات الأميركية، وهذا الاعتقاد يقوم على تأمين بلوغ مرحلة متطورة نوعية لوضع بداية ولو مرحلية لرحلة الحل التي لا تزال طويلة. ومن ذلك وانطلاقاً من التغيير الجوهري الذي حدث على المشهدية للنضال، يمكن طرح معادلة تقوم على أساس انهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيةالمحتلة مقابل تولي"حماس"الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كدولة. وفي محاولة لحصر الموضوع الشائك والمعقد والمركب والمثير في آن معاً، يمكن تسجيل ما يلي: * في مجال الاستخدام المجازي يمكن القول إن"الجمهورية الثانية"! من دولة فلسطين والتي لم تولد بعد، ستكون نقطة تحول مفصلية تضع فلسطين ودول المنطقة والجوار عند انعطافة مصيرية لم يبلغها النضال الفلسطيني من ذي قبل. * علّق رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان على فوز"حماس"من وحي خلفيته كحركة إسلامية كانت في المعارضة وأصبحت هي الآن في الحكم:"على الطرفين الإسرائيلي وحماس التخلي عن العادات والممارسات القديمة المعروفة بينهما... لذا فمن الضروري إقدام حماس وإسرائيلي على الغقرار والاعتراف بالقبول المتبادل: دولة فلسطينية ودولة إسرائيلية". * في حياة الشعوب المناضلة من أجل تحرير أرضها، مراحل وكل مرحلة لها متطلباتها الخاصة بها. ف"حماس"كحركة اعتراضية شيء، و"حماس"السلطة شيء آخر. * أكدت تجارب الصراع العربي - الإسرائيلي، وبالتحديد الصراع الفلسطيني والإسرائيلي، أن معادلة"كل شيء او لا شيء"لم تؤد الى نتائج عملية توقف ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من المآسي اليومية. ومع فوز"حماس"الى جانب ابتهاج أنصارها به، هنالك فرصة تاريخية ظاهرة للعيان، وبقدر حجم وكثافة التأييد اشلعبي لها، يحمل"حماس"- السلطة مسؤوليات بالغة الدقة والخطورة ولا يمكن أن يغرب عن بال"حماس"وعيها التام لهذه المرحلة من الوضع الدولي والأوضاع الاقليمية المتداخلة لرسم سياسة تعاطي مع الواقع بأسلوب يعود بالنفع على الشعب الفلسطيني. * من المفيد في هذه المرحلة أن يعرف الجانب الفلسطيني ماذا كانت ردات الفعل لدى إسرائيل. وفي هذا الإطار كتب جدعون سامت في صحيفة"هأرتس"يقول:"إن السياسات الإسرائيلية والتقديرات الخاطئة للأمور والتي لا تزال ملازمة له هي تقديرات نابعة عن تفكير عفا عليه الزمن. هذه الطريقة فرضت طوال سنوات نهج العداء لحماس تماماً مثلما الغباء السياسي مع منظمة التحرير الفلسطينية". * كان من الأفضل لو أظهرت اللجنة الرباعية في اجتماعها الأخير في لندن أن تتعامل بأسلوب أكثر مرونة مع"حماس"كمنحها فترة زمنية معينة لترتيب إدارة شؤون الواقع الفلسطيني الجديد بدلاً من الإعلان عن تجميد تزويد الفلسطينيين بالموارد المالية. وعلّق الأمير سعود الفيصل على قرار"الرباعية"بقوله إن"حماس"أصبحت حكومة وسلطة، وان قرار وقف المساعدات المالية كارثي لأنه يشمل كل الشعب الفلسطيني. * إنه الاختبار الاصعب في التاريخ النضالي لحركة"حماس"، فإما أن تثبت جدارتها في تحمل المسؤوليات لإدارة شؤون الفلسطينيين كما سيرت أمور نضالها وإلا ستكون فرصة ضائعة في سلسلة الفرص الضائعة أمام حصول الشعب الفلسطيني على حقه في تقرير مصيره وفي عودة فلسطينيي الشتات، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة قابلة للحياة، وليس مجموعة وحدات جغرافية مجزأة ومخترقة سواء بالجدار الفاصل أو بالمستوطنات المزروعة في كل مكان. لقد كان فوز"حماس"بالحجم الكبير الذي حققته مفاجأة للجميع بما في ذلك"حماس". فهل تبقي"حماس"سلاحها صامتاً ولو لفترة هدنة طويلة المدى وتتجاوب مع من يطرح عليها أغصان الزيتون؟ * كاتب وصحافي لبناني.