ها هو الشعب الفلسطيني يثبت من جديد أنه شعبٌ قادرٌ على تجاوز المأساة ومحو آثارها والعمل لأهدافه وفق متطلبات المرحلة وبالطرق التي تتلاءم مع المعطيات الدولية، فأثبت مهنيةً عاليةً في إدارة الصراع في مستواه الميداني والسياسي متبعاً بذلك أساليب التطور والحضارة، وكان آخر هذه المنازلات السياسية المفروضة عليه استحقاق الانتخابات التشريعية والتي تعامل معها شعبنا بإدارة متفوقة نسبياً لشعبٍ يرزح تحت الاحتلال ويمارس خياره الديموقراطي وهو محاطٌ بالحواجز من كل ناحية، وفي ساحةٍ قلّ ما تخلو من تعقيداتٍ فكريةٍ في نسيجها الاجتماعي. هذه الممارسة الديموقراطية جاءت لتحرج كثيرين إن على الصعيد الإقليمي أو الدولي ليس بنتائجها وحسب وإنما بمهنية إنجازها شعبياً، ومن دون الخوض في تفاصيل النتيجة التي بدت منطقيةً للكثيرين وزلزالاً سياسياً للبعض أو تسونامي كما شاء البعض أن يسميها. فإننا نرى خوض الصحف والتحليلات في مناقشة فوز"حماس"الكاسح في الانتخابات باعتباره حدثاً مفاجئاً ليس موضوعياً بالمطلق، إذ ان مراكز استطلاعات دولية كثيرة خارج الضفة والقطاع أعطت الفوز لپ"حماس"في استطلاعاتها قبل الانتخابات، ولو أردنا أن نصحح العبارة فإننا نقول ان فوز"حماس"لم يكن حدثاً مفاجئاًً وإنما استثنائياً، وبالطريقة ذاتها من الخلط تمّ التعامل مع تحليلات الموقف الأوروبي والأميركي الرافض لفوز"حماس"من دون أن نركّز على أن الموقف الأوروبي والأميركي يوقع نفسه في تباين واضح ما بين موقفه ومبادئه الديموقراطية المدعاة القائمة على احترام إرادة الشعوب. لا شك في أن الانتخابات الفلسطينية أفرزت عدداً من المواقف السياسية المتباينة، أبرزها الموقف الغربي من فوز"حماس"على رغم شهادة مراقبيه الذين واكبوا الانتخابات وأكدوا أنها تعبّر حقيقةً عن إرادة الشعب الفلسطيني، ولا شك أيضاً في أن الغرب وجد نفسه في مأزق من نتيجة الانتخابات، فما كان بالأمس مصنفاً على أنه إرهابي اتضح اليوم أنه خيارٌ شعبيٌ. لقد وضعت نتيجة الانتخابات الغرب أمام أسئلة محرجة كثيرة: ألم تكن هذه إرادة الشعب الفلسطيني؟ ولماذا يعاقب هذا الشعب الفلسطيني جماعياً لأنه مارس الديموقراطية؟ ولماذا لم يتم الحديث عن الإرهابيين الواصلين إلى السلطة إلا في فلسطين؟ ألم يصل اسحاق شامير إلى رئاسة الوزراء في اسرائيل وهو مطلوب كمجرم للأمن البريطاني؟ لماذا لم نسمع بقطع المساعدات عن إسرائيل زمن شامير وسفاح صبرا وشاتيلا آرييل شارون؟ أم أن الموقف أصلاً لا يمثل سوى تناغم مع الوجهة الإسرائيلية والضغط الأميركي؟ أسئلةٌ كثيرة ورّط الغرب نفسه فيها من غير موضوعية في موقفه، سوى أنه يداري الموقف الأميركي ومن خلفه الإسرائيلي، خصوصاً عندما نعلم أن الأوروبيين كانوا رفضوا سابقاً تصنيف جهاز"حماس"السياسي على قائمة الإرهاب، لكنهم رضخوا للضغط الأميركي - الإسرائيلي. إن ازدواجية المعايير التي يتبناها الغرب يتضح من خلال التجربة أنها موجهة لمكانٍ دون غيره. فبعد الانتخابات الفلسطينية طفت على السطح قضية الرسوم المسيئة الى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ورأى العالم كيف عبرت بعض المواقف الرسمية الأوروبية عن هذه الإساءة بأنها لا تمثل إساءة الى المعتقدات، بل هي حرية التعبير المقدسة التي تفوق كل القيم حتى الدين. ففي الوقت الذي كان الغرب يحارب الإرادة الديموقراطية للشعب الفلسطيني في من يمثله وسط منطقة إقليمية ندرت فيها الحياة الحرة، وفي وقتٍ حارب الغرب حرية تعبير الشعب الفلسطيني التي لم تسئ الى أحد، كان الغرب يدافع عن حرية تعبيره التي أساءت الى أكثر من بليون شخص. وعندما نرى الموقف الأوروبي الناتج من الضغط الإسرائيلي لا بدّ من أن نفسر الموقف الإسرائيلي الذي وجد نفسه يُعرّى أمام عددٍ من الحقائق أهمها أنه لا يمثل الحالة المتفردة للديموقراطية الحضارية في المنطقة، وأن الشعب الفلسطيني لم يعد قابلاً للتدجين أو الترويض الذي مورس عليه في حلبات الاستسلام عندما اختار أن يطوي أعوام التوقيع والتنازل، فأزعج إسرائيل التي خدعتها مراكز استطلاع الرأي أن الشعب الفلسطيني يستطيع ألاّ يكون ضحية الابتزاز الانتخابي، وأنه قادرٌ على اختيار البرنامج الأصلح لمستقبله بعدما عاش ماضيه المجرّب. هذه وغيرها ليست من الأمور التي اعتادت أن تتعامل معها إسرائيل كواقع، فكان من الطبيعي أن تضغط لحمل الغرب على عقاب الشعب الفلسطيني الذي بدأ فعلاً بسحب بساط الرأي العام الى جانبه وبالطرق التي ينادي بها المجتمع الدولي. وبعد، إن المتابع لواقع الحراك السياسي الدولي ربما يمكنه أن يستقرئ التطورات المقبلة بعد أن عادت بعض الدول إلى رشدها في التعامل الموضوعي مع خيار الشعب الفلسطيني، إما عن تعقل ورؤيةٍ منطقية أو لحساباتٍ سياسيةٍ وبعد أن رأى الغرب أن العمق العربي والإسلامي على رغم كل ما قيل عنه وكل ما شابه من مواقف دونية، إلا أنه يبقى قادراً على سد الفراغ الممكن حدوثه، ولا يمكن أن يتماشى مع الموقف الغربي من نتائج الانتخابات الفلسطينية بحكم طبيعة العلاقة العربية الإسلامية ببعضها بعضاً على رغم تشتتها سياسياً. لكن العلاقة الحاكمة مع فلسطين هنا لا يحكمها الموقف الرسمي بقدر ما يحكمها الموقف الجماهيري المحكوم هو أصلاً بحالةٍ ثقافيةٍ ضاغطةٍ على الموقف الرسمي، لذا لا بدّ من أن يراجع الغرب حساباته ولو السياسية على الأقل بعد أن اتضح أن العمق العربي الإسلامي لا يزال حياً، وأن الشعب الفلسطيني هو من يدرك هذه الحقيقة أكثر من غيره. طارق حمود - بريد الكتروني