يكثر الحديث في الأوساط السياسية العراقية عن تشكيل جبهات وتحالفات وائتلافات جديدة وسط توقعات بتغيرات جذرية في الخريطة السياسية للبلد الذي سيقف بعد أسابيع قليلة على عتبة منعطف جديد، حين سيكون أمام الادارة الأميركية أن تقرر استراتيجيتها المقبلة في ضوء التقويم المتوقع لنتائج الخطة الامنية التي قادها الجنرال ديفيد بترايوس. ولا يقتصر الكلام على إعادة إنتاج التحالفات بين الكتل البرلمانية الحالية أو في داخلها، بل يمتد أيضا إلى صفوف جماعات المقاومة التي يتحدث البعض منها أيضا عن برامج لجبهات وتحالفات سياسية مقترحة، بعد أن ظلت خلال السنوات الاربع الاخيرة تركز على العمل المسلح، مستنكفة عن أي نشاط سياسي. المفاجآت التي قد تنطوي عليها إعادة التقويم، مثل قرار بانسحاب أميركي، حتى ولو كان جزئيا، ربما تكون الدافع لمثل هذه الاستقطابات، على رغم أنه من المبكر جدا الحكم على نتائجها، وخصوصا بشأن تحديد مستقبل العراق ذاته. فالواضح أن هناك حركة دائبة في أوساط الكتل السياسية التي ما تزال خريطتها تتشكل منذ سقوط نظام صدام حسين، غير انها هذه المرة تتم وسط أجواء أكثر تعقيدا لأنها تجري ضمن الانشطارين العمودي والافقي للمكونات المذهبية والقومية العراقية، بعد أن ظلت خلال السنوات الأربع الماضية متمركزة في إطار الصراع النمطي حول السلطة والثروة بين شيعة وسنة وعرب وأكراد. الحراك السياسي الحالي يتجاوز ذلك النمط هذه المرة، كي يدور داخل كل مكون من هذه المكونات، مما قد يوفر في مرحلة لاحقة أرضية لايجاد قواسم مشتركة للقاء بين المكونات المختلفة، على أساس توافقي، أخفقت في الوصول إليه في المرحلة السابقة. هناك مؤشر على وجود رغبات في هذا الاتجاه سواء من خلال طرح جبهة المعتدلين من قبل أطراف العملية السياسية، أو جبهات أخرى أعلن عنها تضم سنة وشيعة معارضين لها، أو حتى تلك التي تمثلها التحركات العشائرية المشتركة التي جرت في بعض المناطق. فعلى الجانب الشيعي وعلى رغم قرار التيار الصدري العودة إلى البرلمان أخيراً فإن التصدعات في الائتلاف العراقي الموحد لم تعد خافية، حتى أنه من الصعب القول الآن بوجود ائتلاف شيعي غير ذلك التعاون والتنسيق الهش بين"المجلس الاسلامي الاعلى"وبين"حزب الدعوة"، وعلى الارض هناك احتقان، بل صراع ضارٍ ودموي في الشارع الشيعي، يتمثل في تلك النوبات من الاقتتال التي تجري بين"جيش المهدي"وحزب"الفضيلة"و"المجلس"في المحافظات الوسطى والجنوبية بين الفينة والاخرى. إن سمة هذا القتال كما اتضح في البصرة والسماوة والديوانية هو أنه صراع على النفوذ السياسي والرغبة في التحكم والسيطرة على أجهزة الدولة وعلى موارد البترول الغنية في المناطق الشيعية. وتمتد بعض هذه الصراعات إلى داخل الجماعات ذاتها، مثل التيار الصدري و"جيش المهدي"الذي أظهر في الاشهر الاخيرة أنه مثخن بالنزاعات ومفتقد لقيادات حقيقية وبرنامج سياسي واضح ومخترق من أطراف داخلية وخارجية عديدة، أما"المجلس الاسلامي الأعلى"فألقت اصابة زعيمه عبدالعزيز الحكيم بالسرطان ظلالا من الشك حول قدرته على الاستمرار في قيادة الائتلاف الشيعي وسط مخاوف من أن يؤدي غيابه إلى فراغ قيادي وصراع ليس فقط حول وراثة الحكيم، بل أيضا حول السياسات التي ينبغي اتباعها مستقبلا، وخصوصاً حول العلاقة مع إيران، وفيديرالية الجنوب والعلاقة مع باقي الجماعات الشيعية. ولا يستثنى حزب"الدعوة"، وهو الضلع الآخر للائتلاف الشيعي، من احتمالات الأزمات الداخلية في ظل صراعات متجددة حول الزعامة والاستراتيجيات المثلى التي على الحزب ان ينتهجها مستقبلا في مسعاه كي يثبت جدارته في طرح نموذج لمشروع شيعي عراقي غير متقوقع داخل الشرنقة الطائفية. اما خارج الائتلاف فلا يبدو أن المكون الشيعي موحد حول مشروع واضح المعالم، اللهم إلا في هواجس القلق والخوف من مخاطر وتحديات من الطرف السني وحاجة الشيعة إلى الوحدة والتضامن أمامها. وعلى الجانب السني العربي انطلق حراك سياسي نشط، سواء بين الجماعات المنضوية داخل العملية السياسية، أو الجماعات المنخرطة في العمل المسلح، أو في داخل الكتلة السنية الاكبر المتمثلة في القبائل والفئات الجهوية، بشكل عكس درجة عالية من التنوع، سواء إزاء الطريقة المثلى لتحقيق الأهداف والمصالح السنية البحتة، أو حول المشروع الوطني لإعادة بناء الدولة العراقية ذاته. ويعكس هذا الحراك بشكل واضح عدم وجود برنامج وأجندة محددة يمكن أن تجتمع حولها الأطراف السنية كافة، كما يظهر جليا وجود تباينات سياسية وقبلية وفئوية بين السنة، إذ تستمر"جبهة التوافق"في العمل ضمن إطار العملية السياسية، بينما تظل جماعات المقاومة وخصوصاً البعثية والاسلامية المتطرفة رافضة تماما الدخول في عملية الوفاق والمصالحة الوطنية، متشبثة بآمال العودة إلى الوضع السابق. ولم يكن هذا التباين الواسع داخل الصف السني ليستمر من دون انعكاسات جذرية تبلورت في خلافات وانقسامات وتفتيت أنتج في النهاية خريطة سياسية مختلفة عما كانت عليه عند بدء الغزو، فلم يعد البعث حزبا واحدا بل انقسم إلى جناحين رئيسيين أحدهما ظل يقوده عزة إبراهيم نائب صدام السابق، والآخر مدعوم من سورية ويقوده محمد يونس الاحمد، في الوقت الذي تبعثرت فيه قيادات وكتل رافضة للجناحين، كما ظهرت تحالفات جديدة داخل جماعات المقاومة المسلحة على خلفية اختلافات وتناقضات أساسية، وخصوصاً ما يتعلق بالموقف من الشيعة وتحديد مستقبل العراق، إذ ظلت المجموعات المدعومة من"القاعدة"، وما يسمى"دولة العراق الاسلامية"، على مواقفها المتشددة، وخصوصاً باستهداف الشيعة في عملياتها الارهابية، بينما نأت باقي التنظيمات بنفسها عن المواقف المتشددة ضد الشيعة والتزمت بخط المقاومة ضد الوجود الاجنبي والخطاب السياسي المصاحب له. ولعل أبرز سمات الخلافات السنية - السنية هو الصراع الضاري الذي نشب في منطقة الأنبار إذ أسست الجماعات القبلية المتنفذة ما سمي"مجلس صحوة عشائر الأنبار"، الذي أخذ على عاتقه قتال التنظيمات المتشددة وخصوصاً"القاعدة"وطردها من مناطق نفوذ العشائر، مما وجه ضربة قاسية لتلك التنظيمات وخلق أجواء مواتية لدور سلمي أكثر إيجابية من قبل سكان هذه المحافظة السنية الكبيرة في العملية السياسية، وجاء تشكيل"مجلس انقاذ الأنبار"من تجمعات أخرى لكي يؤشر على انقسامات عمودية جدية داخل التحالف الاكبر لعشائر الدليم، فضلاً عن أنه تعبير موضوعي عن تباين المصالح والأدوار والأهداف بين زعامات تقليدية وبين قيادات بزغت في خضم المرحلة الجديدة. إن انتقال المثال الانباري إلى مناطق سنية عربية اخرى، كما يجري في ديالى مثلا، سيؤدي إلى سلسلة تفاعلات جوهرية وإعادة اصطفاف، منها ما يتعلق بإضعاف وتهميش الجماعات المتشددة وربما خروجها النهائي من اللعبة، ومنها ما يتعلق بجبهة"التوافق"ذاتها والتي لن يبقى دورها كمظلة للسنة مطلوبا حين تظهر القوى الحقيقية التي كانت وراءها، أو تبزغ قوى فاعلة جديدة تبحث عن دورها في الوسط السني مثلما هو الأمر مع أغلبية المكون الشيعي فإن أغلبية المكون السني، والتي انصاعت تحت ظروف شديدة القسوة والارتباك للشعارات الطائفية بغية حماية ذاتها من التهديدات والمخاوف والهواجس التي شعرت أنها تواجه مستقبلها ومصيرها، ربما ستجد فرصتها في التعبير عن مصالحها بشكل أفضل. هل نحن إزاء تغير جذري في الخريطة السياسية العراقية وخصوصا في المكونيين الشيعي والسني، وهل بإمكان هذا التغير أن يحدث أثرا إيجابيا على مسار الاحداث في العراق؟ الارجح نعم، ولكنه لن يتم من دون جهد حقيقي متمم من كل الأطراف المعنية. ان أحد أسباب هذا التغير، حين يكتمل، هو استنزاف الجماعات الشيعية والسنية لخياراتها المتطرفة ووصولها إلى قناعات بعدم جدوى التقوقع في مشروع طائفي ينتهي بها إلى كيانين هشين قابلين للبلع والاستحواذ من جيران طامعين، وبإمكانية العودة للحياة وللشراكة في وطن واحد متين البنيان وتحت شروط منصفة. الخطوة الضرورية الآن هي إعادة العملية سياسية لكي تستقر على أساس بناء نظام ديموقراطي توافقي حقيقي، يتجنب أخطاء الماضي، ويقوم على أساس تعددي، وعلى توازن المصالح، واستثمار الموارد الطبيعية والبشرية الهائلة، في ردم الهوة وتعظيم المكاسب المتوقعة لكل الأطراف. ما تقول به الجماعات المهيمنة على الحكم، وأيضا بعض مناكفيها، الآن من الدعوة إلى تحالف المعتدلين، أو ما تبديه من استعداد لتعديل المسار، هو مجرد ذر للرماد في العيون، ولا يستهدف الديموقراطية التوافقية المنشودة. ان إعادة تشكيل الخريطة السياسية العراقية ستسارع في فرص ولوج درب هذا الحل، باعتباره الخيار الواقعي الوحيد، غير أن الأمر سيبقى في حاجة إلى ديناميات تديم وتعجل وتضبط عملية التقدم بهذا الاتجاه، خصوصاً إذا أصبح خيار الانسحاب الأميركي من العراق أمرا واقعا، فاذا كان الخطأ الاكبر الذي ارتكبه المحتلون، وهو عدم التخطيط لليوم التالي للغزو فادحاً، فإن ثمن عدم التخطيط لليوم التالي للانسحاب سيكون أكثر فداحة. هنا سيحتاج العراقيون إلى أكثر من المراجعات، وإلى أكثر من إدراك للمخاطر التي تحيق بهم. إنهم بحاجة إلى استراتيجيات لإعادة تركيب ما تفكك وبناء ما تهدم. في العلوم السياسية يسمون ذلك الهندسة التوافقية، والعراقيون بحاجة إلى أن يصبحوا اليوم مهندسين توافقيين وبنائين بعد أن هدموا كثيرا، فهل هم قادرون على ذلك؟ * كاتب عراقي