مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    الموسيقار العالمي أنتوني هوبكنز يوجّه من الرياض رسائل إنسانية وفنية عميقة    الحكومة الأمريكية تمنح «موديرنا» 590 مليون دولار لتطوير لقاح إنفلونزا الطيور    جمعية الإستشارات النفسية بجازان تشارك بركن تعريفي في معرض «دن وأكسجين»    إنسان جازان.. لوحة فنية وأصالة شعرية في حفل افتتاح موسم شتاء جازان 25    أزمة في النصر    النصر يكسب القادسية بثلاثية في دوري السيدات    المحكمة العليا الأمريكية تؤيد حظر «تيك توك» لمخاوف أمنية    أمير جازان يرعى حفل موسم «شتاء جازان 25»    الرئاسة العامة تشارك بورشة عمل بعنوان (رقمنة التوعية في أداء المناسك)    الحقيل يكرم وكالة شؤون الإسكان بأمانة القصيم لتحقيقها مستهدف التمليك    بايدن يخفف أحكاما صادرة بحق 2500 شخص    مركز وتد الحياة يطلق مبادرة مجتمع واعي بالمدينة المنورة    «مجلس الأمن» يرحب بانتخاب عون رئيساً للبنان وتكليف نواف سلام برئاسة الوزراء    انطلاق ملتقى القمة السعودية لريادة الأعمال الاجتماعية برعاية نائب المدينة    أمير منطقة جازان يرعى حفل موسم "شتاء جازان 25"    محمية الملك عبد العزيز الملكية تنضم للقائمة الخضراء الدولية    ضبط 3 إثيوبيين في نجران لتهريبهم (41) كجم "حشيش"    لابورت مدافع بقدرات تهديفية في النصر    القادسية يهزم الوحدة بثلاثية ويتقدم للمركز الثالث    نخبة الجياد العربية في انطلاقة مهرجان الأمير سلطان العالمي للجواد العربي    يزيد الراجحي يتوّج برالي داكار    مسببات خطرة للعقم تجهلها النساء    متى يشكل صداع الأطفال خطورة    نقل مراسم تنصيب ترامب إلى داخل الكونغرس بسبب البرد القارس    بدء استقبال المشاركات لجائزة الأمير فهد بن سلطان للتفوق العلمي والتميز    بوليسيك يغيب عن ميلان في مواجهة يوفنتوس    الجدول الزمني لتنفيذ هدنة غزة    جازان: ضبط 5 مقيمين مخالفين للائحة الأمن والسلامة لمزاولي الأنشطة البحرية    100 ألف ريال عقوبة إتلاف مسيجات المناطق المحمية    المحكمة الأميركية العليا تقر قانون حظر «تيك توك»    إنجاز عالمي لإثراء الضيافة القابضة بموسوعة جينيس كأكبر مخيم سكني بالمشاعر المقدسة    جوارديولا: تمديد عقد هالاند لعشر سنوات خبر استثنائي لسيتي    خطيب المسجد النبوي: احذروا أن تتحول قوة الشباب من نعمة إلى نقمة ومن بناء إلى هدم    جمعية التوعية بأضرار المخدرات في جازان تقيم معرض "دن وأكسجين"    إحباط تهريب 3 ملايين حبة «كبتاجون» وردت في إرسالية «منتجات إنارة LED»    وزارة الداخلية تختتم مشاركتها في مؤتمر ومعرض الحج في نسخته الرابعة بمحافظة جدة    أمطار خفيفة على أجزاء من المناطق الجنوبية تمتد إلى مرتفعات مكة    الذهب يحافظ على مكاسبه وسط توقعات بخفض الفائدة الأمريكية هذا العام    فريق أمل وعمل ينفذ مبادرة تطوعية في مؤسسة رعاية الفتيات بجازان    «الخارجية»: نرحب باتفاق وقف إطلاق النار في غزة    HMPV فايروس «الطائر المتبدل»    لا أمانة.. لا شرف    لا الخطيب مفوّه ولا المفوّه خطيب    جزء من النص (مخلوع) !    أمر ملكي بتشكيل مجلس هيئة حقوق الإنسان في دورته الخامسة    رعاية كبار السن.. نموذج إنساني للعدالة الاجتماعية    اضحك على نفسك    صفقات مليونية واتفاقيات شراكات بين كبرى شركات مؤتمر ومعرض الحج بجدة    متحدث أمن الدولة: السعودية لم تكن يوماً أداة لخدمة الأهداف الخارجية    آل الشيخ : الإسلام دين راسخ لا تهزه محاولات التشويه والمملكة ستبقى صامدة ومخلصة في الدفاع عنه    شركة HONOR تُطلق Magic7 Pro في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: المستقبل هُنا مع ميزات الذكاء الاصطناعي وأحدث الابتكارات في عالم الهواتف الذكية    إستراتيجية لتعزيز السياحة البيئية بمحمية الملك عبدالعزيز    تعزيز مكانة محمية الملك عبدالعزيز البيئية والسياحية    محمية الملك عبدالعزيز تطلق إستراتيجية لتعزيز مكانتها البيئية والسياحية    أمير القصيم يؤكد على السلامة المرورية    السعودية ترحب باتفاق وقف إطلاق النار في غزة وتثمن الجهود المبذولة من قطر ومصر وأمريكا    هدنة مشروطة تحت الاختبار في غزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات جورج تينيت "في قلب العاصفة" المهمة لم تنجز ... وهدف ديك تشيني إعادة تشكيل المجتمع العراقي من الصفر الحلقة الأخيرة
نشر في الحياة يوم 17 - 07 - 2007

سافرت إلى العراق لأول مرّة قرابة الوقت الذي تولّى فيه بول بريمر منصبه كرئيس لسلطة الائتلاف الموقتة، في الأسبوع الثالث من أيار مايو 2003. وقد استقللت في جولة بالمروحيّة أنا وبريمر فوق بغداد. كان ذلك في وضح النهار. وكان باب المروحية مشرعاً، وأنا أنظر إلى الخارج في أثناء التحليق. وأذكر أنّني فكّرت فيما كنّا ننساب في الفضاء في مقدار دقّة العمل العسكري الأميركي. على الأرض، كانت البيئة متساهلة في شكل مدهش، بالنظر إلى أنّ جيشاً أجنبياً غزا العاصمة للتوّ وأزاح الديكتاتور الذي حكم البلد مدة طويلة.
تخلّل الإحساس نفسه بالتفاؤل محطّتنا في بغداد. نصف الناس هناك من الشبان والشابات الذين أنهوا تعليمهم. وبينهم خليط من الكبار الذين عركتهم الحياة والمتقاعدين الذين عادوا إلى العمل كمتعاقدين. كنت أعرف الكثير من المحاربين القدامى من أماكن غريبة في كل أنحاء العالم. وهم الآن في بغداد للمساعدة في إنهاء عمل بناء أمة ديموقراطية جديدة.
عندما عدت إلى العراق في شباط فبراير 2004، كان المحيط قد تغيّر في شكل ملحوظ. طرنا نحو بغداد ليلاً، إذ إنّك لا تستطيع المجيء في أثناء النهار. وقد أجرت طائرة سي - 17 التي أقلّتنا هبوطاً قتالياً كاملاً - انحداراً حاداً وسريعاً نحو الأرض. كنت جالساً على مقعد متقدّم جداً، وأنا أرتدي سترة واقية وخوذة. لم نشاهد مناظر هذه المرة. طرنا إلى المنطقة الخضراء على ارتفاع منخفض جداً وهبطنا في الظلام، على مدرج غير مضاء.
في ذلك الوقت، كان حضور"سي آي أي"في العراق توسّع كثيراً. وقد حضر كثير من رجالنا الاجتماع الذي رتّبه كبير ضباطنا في بغداد. جاء الجميع تقريباً مرتدين دروعاً واقية. لم أشاهد البتة من قبل هذا العدد من الشبان المجهدين مجتمعين في مكان واحد. وقد بقيت ثلاث أو أربع ساعات وأنا أتحدّث معهم. وبعد ذلك قفلت عائداً.
في الأشهر العشرة التي انقضت بين الزيارتين، أصبحت بغداد مكاناً مختلفاً تماماً، لكن، ليس بالطريقة التي كانت تريدها الحكومة الأميركية. لكن كيف سلكت الأمور هذا الطريق؟ من خلال سلسلة من القرارات، التي تبدو إذا عدنا إلى الوراء، مثل حادث اصطدام سيارة يُعرض بالحركة البطيئة.
بدأت المشاكل في الواقع قبل الحرب بكثير. لم يجرِ التخطيط كثيراً قبل الغزو لإعادة الإعمار المادي الذي يمكن أن يلي. لكن في ما يتعلّق بإعادة بناء العراق سياسياً - كيف يدار البلد وما الدور الذي يلعبه العراقيون، إذا وجد، في تحديد مستقبلهم السياسي - فقد أجري الكثير من النقاشات الحيوية بين الهيئات، على أعلى المستويات في الغالب. كان نائب الرئيس وكوندي رايس مهتمين كثيراً بالأمر وغالباً ما شاركا بصورة مباشرة. وكان نواب المديرين ووكلاء الوزارات يمثّلون في الغالب هيئاتهم. وتقاسم ذلك الواجب من جانبنا جون مكلوغلن وبوب غرنيير، وهو ضابط كبير لعمليات"سي آي أي"وپ"مدير مهمّتنا"في العراق.
كانت المناقشات تنقسم عادة تبعاً للخطوط المألوفة: وزارة الخارجية وپ"سي آي أي"ومجلس الأمن القومي يفضّلون مقاربة أكثر إشراكاً وشفافية، يجتمع بموجبها العراقيون الذين يمثّلون مختلف القبائل والطوائف والمجموعات ذات المصالح في البلد معاً للتشاور وإنشاء نوع من الجمعية التأسيسية التي تنتقي بعد ذلك مجلساً استشارياً ومجموعة من الوزراء لحكم البلاد. لم يدعُ أحد إلى الإدخال الفوري للديموقراطية الجفرسونية، لكن كان العديد يؤمن بوجوب تشجيع العراقيين على المشاركة في العملية التي تساعد بسرعة في تحديد القادة الحقيقيين للعراق الديموقراطي في المستقبل - وتضفي الشرعية عليهم.
غير أنّ نائب الرئيس والمدنيّين في البنتاغون دعوا إلى نهج مختلف تماماً. بدلاً من المخاطرة بعملية سياسية مفتوحة يمكن أن يؤثّر عليها الأميركيون لا أن يتحكّموا بها، كانوا يريدون التمكّن من تحديد السلطة العراقية واختيار العراقيين المشاركين. وذلك يعني عملياً أحمد الجلبي وحفنة من المعارضين المعروفين المنفيين منذ مدة طويلة، إلى جانب زعماء المناطق الكردية التي تحظى بحكم ذاتي أساساً. كان الاختلاف بين الأسلوبين واضحاً ومعبّراً عنه بجلاء. وقد أجمل نائب الرئيس نفسه المعضلة: كان الخيار كما قال بين"السيطرة والشرعية". وعبّر دوغلاس فايث بوضوح عن إيمانه بأنّ ليس من الضروري أن يضفي المنفيون العراقيون الشرعية على أنفسهم:"بإمكاننا إضفاء الشرعية عليهم"، من خلال مساعدتنا الاقتصادية والحكم الصالح الذي توفّره الولايات المتحدة. لكنّهم لم يكونوا يدركون قط أنّ السيطرة تعتمد جوهرياً على موافقة المحكومين.
لم يتمّ التوصّل إلى إجماع، ولم توضع خطة واضحة. غير أنّ في أوائل كانون الثاني يناير 2003، وقّع الرئيس بوش أمر الأمن القومي الرئاسي الرقم 24، الذي يعطي بموجبه وزارة الدفاع المرجعية الكاملة والتامة عن العراق بعد الحرب. لم ندرك الأمر تماماً في ذلك الوقت، لكن في النهاية، كان الأمر 24 يحدّد من يتخذ القرارات النهائية بشأن هذه المسائل الخطيرة، ويحدّد اتجاه إعادة الإعمار بعد الحرب.
كان يحوم حول هذه العملية بأكملها شخص أحمد الجلبي - نادراً ما اعتُرف به ولا يُذكر البتة تقريباً. فكم من مرة في الأشهر المؤدية إلى الغزو وبعد ذلك بأشهر، طرح ممثّلو نائب الرئيس ومسؤولو البنتاغون أفكاراً مغلّفة تغليفاً رقيقاً بمساعي تعيين أحمد الجلبي مسؤولاً عن العراق بعد الغزو. قبل الغزو مباشرة، اتخذ المسعى شكل اقتراح، قُدّم بإلحاح وفي شكل متكرّر، لإنشاء حكومة عراقية في المنفى، تتكوّن من المنفيين والزعماء الأكراد. وبعد ذلك ينصّب هؤلاء المنفيون كحكومة جديدة عندما تسقط بغداد. أصيب زملائي في"سي آي أي"بالدهشة. وكما ذكر غرنيير لاحقاً، بدا الأمر كما لو أنّ رجال وزارة الدفاع ونائب الرئيس يريدون استحضار المقارنة مع الغزو السوفياتي لأفغانستان، عندما خلعت القوات الروسية الحكومة القائمة ونصّبت بابراك كارمال الذي أحضروه معهم من موسكو.
في اجتماع لمجلس الأمن القومي عقد قبل نحو ثلاثة أشهر من الحرب تقريباً، سأل الرئيس بوش الجنرال طومي فرانكس ما الذي سيفعله بشأن الأمن والقانون والنظام في المناطق الخلفية. قال فرانكس للرئيس،"جرى الاهتمام بالأمر يا سيدي، سأعين ضابطاً أميركياً يتولى شؤون كل مدينة وبلدة وقرية". لم يكن ذلك ما حدث لاحقاً. ولا يمكنني أن أقول إذا كان ذلك جزءاً من تخطيط القيادة الوسطى المبكّر أم لا. من الناحية العملية، كانت القوة العسكرية الأميركية كافية لإلحاق الهزيمة بالجيش العراقي، لكنّها غير كافية البتة للمحافظة على السلام - مثلما توقّع الجنرال ريك شنسكي، رئيس أركان الجيش السابق.
قبل أن تبدأ حرب العراق، أعد موظف في مجلس الأمن القومي تقديراً لعدد القوات المطلوبة لإقرار الوضع في العراق بعد الحرب. كان الجواب: 139000 إذا كان النموذج أفغانستان"وأكثر من 360000 إذا كان النموذج البوسنة، و500000 على الأقل إذا كان النموذج كوسوفو. أي من النماذج كان العراق؟ لقد أخطأ الاستراتيجيون الأميركيون في اختيار نموذج أفغانستان عندما ذهبوا إلى العراق، ونحن ندفع الثمن منذ ذلك الوقت.
كان الرجل الذي عيّنه البنتاغون مسؤولاً عن العراق"بعد النزاعات الكبرى"الجنرال المتقاعد جاي غارنر. انتُدب غارنر لهذه المهمة قبل أشهر من الغزو، ثم أرسل إلى الكويت لجمع فريقه وإعداده. عندما وصل هو وفريقه إلى العراق في 18 نيسان أبريل لتولي مسؤولية مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية، تبيّن بسرعة أنّ المهمّة التي يتعيّن على غارنر الاضطلاع بها هائلة الحجم، وأنّ التخطيط المسبق كان غير كافٍ بصورة يرثى لها. أقيم مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية في أحد قصور صدام المهجورة، لكنّه وجد نفسه من دون اتصالات كافية، ويفتقر إلى ما يكفي من الناطقين بالعربية، وتنقصه الصلات مع الشعب العراقي. كان غارنر رجلاً جيداً ذا مهمة مستحيلة. وكان يتولّى المسؤولية من دون سلطة، وتحوّل الموقف السيئ إلى أسوأ على الفور.
حاولت"سي آي أي"المساعدة. عقدوا اجتماعات مع شريحة من التكنوقراطيين العراقيين المهمين - أشخاص يمكنهم المساعدة في تشغيل البلد - وجمعوهم مع كبار الضباط الأميركيين. غير أنّهم واجهوا صعوبة على الفور. سئلوا هل تضمّ المجموعات التي نحشدها أعضاء من حزب البعث؟ بالطبع تضمّ. لا يمكنك أن تتقدّم في عراق صدام إذا لم تلتحق بحزب البعث. ومثلما كان على الحكومات الديموقراطية الجديدة في أوروبا الشرقية أن تضمّ حتماً أعضاء من الحزب الشيوعي، فإنّ أي مجموعة من البيروقراطيين الماهرين في بغداد يجب أن تضمّ أشخاصاً كانوا ذات يوم أعضاء في حزب البعث. لم يشكّك أحد في ذلك في البداية، لكن الفهم الذي كان واضحاً بالنسبة إلينا لم يكن كذلك بالنسبة إلى مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية، وذلك ينذر بمشاكل أكثر خطورة ستنشأ.
نشأت مشاكل مماثلة عندما بدأت الولايات المتحدة تبحث عن مرشّحين لملء الحكومة العراقية الموقتة. واصل المسؤولون الأميركيون البحث عن"محمد جفرسون"، كما عبّرت عن ذلك الوكالة، لإطلاق الديموقراطية الجفرسونية في العراق. والمشكلة هي أنّ صدام حسين قتل منذ مدة طويلة كل من ينطبق عليه الوصف بدقّة.
في ربيع 2003، بدأ جاي غارنر، بمساعدة مدير مجلس الأمن القومي زلماي خليل زاد، عملية عقد مؤتمرات في مناطق العراق على أمل الاعتراف بمركز السلطة المختلفة والاستفادة منها. ووفقاً لضباط"سي آي أي"الذين كانوا معه، كان خليل زاد يعتقد بأنّ من الضروري أن يضفي العراقيون الشرعية على أنفسهم. كانت هناك مخاطر ملازمة لذلك. يمكنك أن توجّه مثل هذه العملية لكن لا يمكنك السيطرة عليها. وذلك في النهاية هو جوهر الديموقراطية التي ندعو إليها. وكان من الضروري لاستقرار البلد في المستقبل أن يرى العراقيون أنّ الأشخاص الذين أقرّوا بأنّهم يشكّلون مراكز ثقل يشاركون في العملية السياسية. لم يحدث ذلك. فقد توقّفت فجأة عملية إضفاء العراقيين الشرعية على أنفسهم، واستُبعد خليل زاد وغارنر.
كان الافتراض الذي تعمل الحكومة الأميركية بموجبه أنّ الأمر سيكون مثل احتلال ألمانيا، بلد منبطح تحت أقدامنا ونستطيع أن نعيد تشكيله بالطريقة التي نختارها. وكانت الولايات المتحدة ستقضي تماماً على حزب البعث. وفي رأي وولفوفيتز وآخرين، بإمكانك أن تستبدل كلمة"بعثي"بكلمة"نازي". وسرعان ما تبيّن لنا وللعراقيين بوضوح أنّ هدف الغزو الأميركي هو أساساً إعادة تشكيل مجتمعهم.
في أوائل أيار 2003، تلقّيت مكالمة من كولن باول يسأل عما أعرفه عن بول بريمر. قلت:"إنّني لا أعرفه حقاً". ومما سمعت، كان بريمر سفيراً سابقاً حازماً ترأس لمدّة من الزمن مكتب مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية."لم أسمع بالتأكيد أي شيء سيئ عنه".
تابع باول ليقول إنّ الإدارة تفكّر في بريمر للحلول محل جاي غارنر. وبعد بضعة أيام، أذاع البيت الأبيض الخبر بشكل رسمي: اختير بريمر لقيادة مسعى إعادة بناء البنية التحتية العراقية والمساعدة في إنشاء حكومة جديدة. وعلى رغم أنّ بريمر كان مبعوثاً رئاسياً، فإنّ وزير الدفاع سيكون المسؤول المباشر عنه. وأعطيت هيئته اسم"سلطة الائتلاف الموقّتة". بعدما أنشئت سلطة الائتلاف الموقّتة، أمرت كوندي رايس لجنة الهيئات المشتركة التي أقيمت للتعامل مع قضايا التخطيط لما بعد الحرب بأن تنهي أعمالها. لكن لم يمضِ وقت طويل، كما أخبرني أحد المسؤولين في البيت الأبيض، حتى"اختلطت الأمور واضطررنا إلى الاعتماد على البريطانيين لإبلاغنا بما يجري لأنّنا لم نكن نحصل على تقارير سياسية من سلطة الائتلاف الموقتة". فأمرت رايس عندئذ بإعادة انطلاق عملية مجلس الأمن القومي ثانية. لكن، في ذلك الوقت، كانت قرارات أساسية في شأن تسريح الجيش واجتثاث البعث اتخذت بالفعل. وكانت الأخبار المبكّرة عن سلطة الائتلاف الموقّتة تشير إلى أنّها تعمل بسلاسة.
كانت الأخبار مثيرة للقلق. وكنت قلقاً أيضاً من ألا تكون سلطة الائتلاف الموقّتة مزوّدة، بالأشخاص الذين يمتلكون المهارات المطلوبة لتمكينها من النجاح. كان العديد منهم يمتلكون المؤهّلات السياسية الصحيحة لكنّهم غير مدرّبين على الطرق المعقّدة السائدة في الشرق الأوسط. كان العراقيون بحاجة إلى مستعربين وضباط في الجهاز الخارجي يدركون الولاءات القبلية للبلاد، أو يميّزون على الأقل بين السنّة والشيعة. بدا أنّ سلطة الائتلاف الموقّتة تستقدم أشخاصاً متلهّفين لإقامة بورصة بغداد، وتجربة نظام ضريبي موحّد، وفرض عناصر أخرى من مدرسة البنية الاجتماعية الرأسمالية الديموقراطية. عاد أحد ضباطي من رحلة إلى العراق بعد شهر أو اثنين على تولّي سلطة الائتلاف الموقّتة وقال لي:"المكان يدار كحلقة دراسية جامعية، لا أحد منهم يتحدث العربية، ولم يزر أي منهم سابقاً بلداً عربياً، ولا أحد يتخذ القرارات سوى بريمر".
محطات وأزمات
على رغم أنّني أمضيت معظم حياتي المهنية في الكونغرس، كنت أجدني مرتاحاً بصورة متزايدة في النصف الآخر من العالم. هناك في الصحراء، أو في القدس أو رام الله، أو الرياض أو اسطنبول، كنت أتكيّف جيداً هناك. وربما أصبحت من أهل تلك البلاد من دون أن أدري.
لعلني قصدت الشرق الأوسط أو بلدان آسيا الوسطى وجنوب آسيا في 90 في المئة على الأقل من رحلاتي إلى الخارج. كنت أتردّد كثيراً عليها، وأواصل العودة إليها لبناء علاقات شخصية ربما تؤدي إلى تحقيق اختراق.
لم يكن لذلك علاقة بديبلوماسية كيسنجر المكّوكية الرفيعة. بل هجين من العمل الاستخباراتي والديبلوماسية التي مارسها ابن مهاجرين يونانيين يشير الى نفسه. وكلما اقتربت أكثر من موطن أسلافي المتوسّطي، ازداد إحساسي بأنّني في بيتي. ولسبب ما بدا أسلوبي ناجحاً، سواء كنت أتحدّث إلى رؤساء دول متوّجين أو مسؤولين أمنيّين محنّكين ارتقوا إلى السلطة على نحو غير متوقّع.
أذكر رحلة في ربيع سنة 2000 إلى جورجيا. فقد طرنا إلى العاصمة عند الظهيرة تقريباً، وأنجزنا عملنا هناك، ثم توجّهنا إلى منزل ريفي، داشا، حيث أصرّ الجورجيون على إقامة حفلة لي. بدأ العشاء من بدون تأخير في السابعة مساء. كان هناك نحو خمسين شخصاً جالسين حول مائدة طويلة جداً، الجورجيون في جانب والأميركيون في الجانب الآخر، واحتشد فريق من المغنين الجورجيين في أحد طرفيها.
بعد مضي نحو ساعتين في الحفلة، سمعت الجورجيين الجالسين قبالتنا على المائدة يتحدّثون بتعابير ازدرائية عن الروس. وفي ذلك الوقت كنت اندمجت عميقاً في روح الأمسية، فملت نحو ديف كاري، الرجل الثالث في الپ"سي آي إي"في ذلك الوقت، الجالس بجانبي وهمست،"تباً للروس"! لكن ما قصدت أن يكون همساً خرج جهراً للأسف، ما سرّ الجورجيين كثيراً فقفزوا وبدأوا يصفّقون.
في الصباح التالي عندما وصلنا إلى المطار للانتقال إلى أوزبكستان، كان من الصعب التفكير في أي شيء سوى رأسي المصدوع. وذلك ما كنت أفعله عندما تقدّم نحوي مسؤول جورجي كبير وقال:"لدينا أخبار سيئة. لقد رفض الروس منحك الإذن بالطيران للوصول إلى محطتك التالية". طالما تساءلنا إذا ما كان الروس يتنصّتون على داشا الجورجيين واستاؤوا من ملاحظتي المرتجلة.
اجتمعنا مرة برئيس جهاز الأمن الاتحادي في روسيا، وكان مقر الجهاز فوق سجن لوبيانكا السيئ السمعة، وأثناء المناقشة قمت بما أقوم به في الغالب عندما تتعقّد الأمور: طلبت من جون مكْلوغلِن أن يؤدي حيلة المال التي اشتُهر بها. لذا تناول جون ورقة ألف روبل، وقام بشعوذات غير عادية وحركات خفيفة مذهلة، وفجأة عندما فتح يديه ثانية، ظهرت ورقة مئة ألف روبل. فقال لمدير مكتب الأمن الاتحادي، نيقولاي كوفاليف، بوجه خال من التأثّر،"كيف تعتقد أنّنا حصلنا على المال"؟ في ذلك الوقت كان التعبير الذي بدا على وجه كوفاليف مسلياً جداً. كان بوسعي أن أراه يتساءل:"قال رونالد ريغان إنّه سينهكنا ويدخلنا عالم النسيان عن طريق مبادرة الدفاع الاستراتيجي، وها هو هذا الرجل مكلوغلن يصنع المال لهم. لن نتمكّن قط من إلحاق الهزيمة بهم"! أدى جون ذات مرة الحيلة نفسها أمام كارلوس منعم، رئيس الأرجنتين المكبّلة بالقروض في ذلك الوقت. وبعد أسبوع، تلقّينا رسالة بأنّ منعم قرّر بعد التفكير أن يجعل جون وزير ماليته.
في أيلول سبتمبر 1997، أخذت ستيفاني وجون مايكل إلى بِثاني، دِلَوير، لقضاء عطلة نهاية أسبوع هادئة. كنّا على الشاطئ متظاهرين بأنّنا أسرة أميركية عادية عندما استدعتني مفرزتي الأمنية لتلقّي اتصال هاتفي عاجل من رئيس جهاز الاستخبارات الأردني. أخبرني أنّ الأردنيين قبضوا على مجموعة من مسؤولي الاستخبارات الإسرائيلية فيما كانوا يحاولون اغتيال خالد مشعل، المسؤول عن مكتب"حماس"في دمشق، بحقنه بسمّ قاتل في أذنه. وقد نفّذت المحاولة في وضح النهار في وسط العاصمة الأردنية عمان. تمّ توقيف عنصرين من الفريق الإسرائيلي الضارب، وأفيد عن ستة آخرين لجأوا إلى السفارة الإسرائيلية. وكان مشعل على وشك الموت. ثارت ثائرة الملك حسين الذي ساعد كثيراً في عملية السلام في الشرق الأوسط، وكان غضبه مفهوماً. وفي غضون ذلك، أخذ الأردنيون يصيحون بالإسرائيليين للحصول على الترياق الذي يمكن أن ينقذ حياة مشعل.
في أوائل أيار 1999، عشية المغادرة إلى لندن لحضور أحد المؤتمرات المنتظمة مع نظرائنا في الكومنوِلث البريطاني، اتصل بي مساعدي التنفيذي آنذاك، مايكل مورل، في منتصف الليل. فقد تلقى مايك للتوّ اتصالاً من مركز الپ"سي آي إي"بعد تلقيه مكالمة من الجنرال ويسلي كلارك، قائد القوات الأميركية في البلقان. كان سؤال كلارك:"لماذا طلبت مني الپ"سي آي إي"قصف السفارة الصينية في بلغراد"؟ في نظرة استرجاعية كان يجدر بي أن أردّ بملاحظة تسأل: لماذا لم تحدّث قواعد بيانات"عدم الضرب"الخاضعة لمسؤولية الجنرال كلارك كما هو مطلوب. ولو كانت كذلك لأمكن تفادي المأساة. غير أنّ ذلك لا يقدّم عذراً لخطئنا.
بيّن التدقيق في أخبار الوكالات أنّ الحكومة الصينية قالت فعلاً إنّ طائرة أميركية قصفت للتوّ سفارتها في بلغراد. مضت بضع ساعات ونحن نعتقد أنّها مسألة قنبلة زائغة أو صاروخ انحرف عن هدفه المقصود، وذلك مأسوي، لكن هذه الأمور تحدث في الحرب. كنت على متن الطائرة إلى لندن عندما بدأت تردنا معلومات بأنّ قاذفات سلاح الجوّ ضربت ما صوّبت عليه بالضبط وأنّهم استخدموا بالفعل بيانات استهداف مقدّمة من الپ"سي آي إي". قُتل ثلاثة أشخاص في الضربة التي ألحقت أضراراً فادحة في المبنى، وجُرح أكثر من عشرين آخرين. لم يكن لدي فكرة بعد عن سبب وجود خطأ كبير في بيانات الاستهداف، لكن، بما أنّ هذا الخطأ سيصبح حادثة دولية، طلبتُ من نائبي في ذلك الوقت، الجنرال في سلاح الجوّ جون غوردون، التوصّل إلى معرفة كنه الموضوع بأسرع ما يمكن. وكان مسؤولون مُغْفلون في البنتاغون يسارعون بالفعل إلى الهواتف لتبرئة وزارتهم من الملامة، ويبلغون وسائل الإعلام بأنّ الخطأ يرجع إلى استخدام الپ"سي آي إي"خرائط خاطئة، لكن ذلك جزء من القصة فحسب.
في أثناء الحرب الجوية الوجيزة في البلقان، قدّمت الپ"سي آي إي"معلومات استخبارية عن عشرات من الأهداف العسكرية المنتقاة. مع ذلك سرعان ما بدأت المواقع المهمة عسكرياً بالنفاد لدى البنتاغون، لذا طلب من الوكالة اقتراح أهداف نريد تدميرها. وكان أول الأهداف المعروضة كما أعتقد مديرية الإمداد والمشتريات اليوغسلافية الاتحادية، وهي مستودع عسكري يُعنى بشحن أجزاء الصواريخ إلى بلدان مارقة مثل ليبيا والعراق. ومما يؤسف له أنّ المستودع كان موقّعاً بصورة خاطئة على خرائط غير معدّة لتحديد المواقع المراد ضربها. وقد أعطينا البنتاغون إحداثيات السفارة الصينية في الواقع. وكان المستودع يبعد عنها نحو ثلاثمئة متر. بعد تمرير المعلومات الخاطئة إلى البنتاغون، أخفقت آليات للتدابير الوقائية من جانبهم. فمن المفترض أن يحتفظ الجيش بقواعد بيانات حديثة"لعدم الضرب"تُبعد الطائرات عن المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد وأماكن مثل السفارات، لكن جرى إهمال قاعدة البيانات تلك.
اتفق أن لاحظ أحد ضباطنا، غير المعنيين بتحديد الأهداف، توقيع المستودع وأثار أسئلة حوله. فقد تذكّر أنّه شاهد معلومات قبل بضع سنوات تفيد بأنّ مبنى الإمداد يقع على بعد مربع من الموقع المحدّد. بادر الضابط إلى الاتصال بدائرة الفريق الدفاعي الخاص في نابولي قبل ثلاثة أيام من القصف ليقول إنّه يعتقد بأنّ مبنى مديرية الإمداد والمشتريات اليوغسلافية الاتحادية يقع على بعد مربع من المباني عن الموقع المحدّد. مع ذلك في 7 أيار، تفاجأ الضابط عندما عرف بأنّ المبنى موجود على لائحة الأهداف المعدّة للقصف في تلك الليلة. وفي وقت لاحق، قال المسؤولون العسكريون في أوروبا إنّهم اعتقدوا بأنّ ضابط الپ"سي آي إي"كان يحاول أن ينقل بأنّ المبنى قد لا يكون مقرّ قيادة الإمداد، لكنّه هدف مشروع مع ذلك. يختلف التذكّر عما قال بالضبط، لكن من المؤكّد أنّه ما من أحد في أعلى القيادة أو أسفلها كان يعرف بأنّ المرفق المعني هو السفارة الصينية....
كان من المحتّم أن تمارَس الكثير من الضغوط على البيت الأبيض لكي تتدحرج الرؤوس المسؤولة عن هذه القضية، وبدا أنّ رأسي مرشّح محتمل....
وقد أراحني أنّ الرئيس كلينتون رفض الدعوات إلى تحميلي المسؤولية شخصياً عن تلك الحادثة.
في الأيام التي سبقت بداية حرب العراق مباشرة، في آذار مارس 2003، جاءني أحد الضباط الكبار في مديرية العمليات وقال باسماً،"لن تصدّق ما سأقول يا ريّس. لقد تلقّينا للتوّ رسالة سرية عاجلة من جهاز الاستخبارات الصيني". وتوقّف قليلاً لإحداث تأثير بعد أن استرعى انتباهي.
سألت،"ماذا قالوا"؟
"لقد أرسلوا إلينا الإحداثيات الجغرافية للسفارة في بغداد وقالوا إنّهم يأملون أن تدرج بدقّة في كل قواعد بيانات البنتاغون".
* تصدر الترجمة العربية للكتاب عن دار الكتاب العربي في بيروت آخر هذا الشهر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.