من الممكن عند النظر الى بول بريمر، رئيس سلطة الائتلاف الموقتة، ووضع العراق ان نشعر، من جهة ببعض الحسد للموقع المتميز الذي يتخذه الأول في قلب الأحداث، وأيضا بالاستبشاع للانهيار الأمني الذي يعصف بذلك البلد التعيس منذ قدوم بريمر اليه في أيار مايو الماضي. ولا شك أن قليلين فقط من المسؤولين الدوليين يواجهون تحدياً بصعوبة وأهمية ما يواجهه بريمر، مع التمتع بدعم مالي هائل ومجال واسع للتحرك نحو اعادة بناء دولة من العالم الثالث دمرتها الحروب وتمكين العراقيين من انتخاب الحكومة التي يريدون. لكن السلطة الموقتة تجد نفسها حالياً مضطرة بعد كل خطوة تخطوها الى الأمام الى اتخاذ خطوة الى الخلف، بسبب تصاعد موجة الارهاب الاجرامي التي تهدد باغراق العراق في حال من الفوضى الشاملة. من الصحيح ان بريمر لم يكن معروفاً في شكل خاص في بلده أو العالم. انه رياضي سابق، وعمل خبيراً في شؤون الارهاب في وزارة الخارجية الأميركية، ومسؤولاً عن مكافحة الأرهاب في عهد الرئيس رونالد ريغان، عندما لم يكن تهديد الارهاب لأميركا قد وصل الى مستواه الحالي. وكان من المثير للانتباه أن الرئيس بوش اختار خبيراً في شؤون الارهاب لادارة العراق وليس مسؤولاً سياسياً. انه شخص على قدر كبير من النشاط والذكاء، وقوبل بالترحيب في بغداد بعد مغادرة سلفه الجنرال المتقاعد جاي غارنر، بائع السلاح الذي يبلغ 65 سنة، الذي كان اختيارا سيئا بكل المقاييس. وجاء هذا التغيير ليعكس الخلافات المزمنة بين وزارتي الدفاع والخارجية. اذ كان غارنر من المقربين الى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، فيما ينتمي بريمر الى كادر وزارة الخارجية، واختاره وزيرها كولن باول للمهمة. وتم ذلك أول الأمر بناء على تسوية وضعت بريمر تحت امرة وزارة الدفاع. لكن بدا في الأسابيع الأخيرة ان الملف العراقي انتقل الى مستشارة الأمن القومي كوندوليسا رايس، التي تتولاه باشراف مباشر من الرئيس بوش. وقد نشرت صحيفة "تايمز" اخيراً مقابلة مع بريمر في مكتبه "الاسبارطي" في القصر الجمهوري، مقر الرئيس المخلوع صدام حسين. وكان المفاجيء في المقابلة صراحته عندما قال أن "الاحتلال أمر مزعج للذين يتعرضون له وكذلك للمحتلين" - وهو منطلق صادق ومعقول لمواجهة الوضع، وان لم يكن بالضبط ما يقوله الرئيس بوش. كما انتقد ضمنياً اداء القوات الأميركية، اذ أضافت الصحيفة انه "اعترف بأن القوات لم تكن على ادراك كاف بالحساسيات الثقافية لدى العراقيين. ولم تدرك الا في وقت متأخر الحاجة لقصر مسؤولية تفتيش النساء على المجندات الأميركيات، والى دفع الدية عن المدنيين الذين يقتلون خطأ، والتعجيل في اطلاق المحتجزين عندما لا يكون احتجازهم ضروريا". وأوضح بريمر بعض المشاكل التي سببها تغيير مهمة الجنود الأميركيين من مقاتلين الى محافظين على الأمن: "انها مشكلة للقوات المحتلة تعود الى الوف السنين. المهمة الرئيسية لأي جيش هي قتل الاعداء، لكنها تتغير بنهاية العمليات الحربية لكي تتوجه الى السكان. وهو أمر صعب نفسيا على جندي عمره 22 سنة يتلقى راتبه لكي يذهب الى الحرب". وعند سؤاله عن تقرير "سي آي أي" الذي تسرب الى الاعلام أخيراً وقدّر أن عدد الارهابيين الآن يصل الى نحو خمسين الف، وليس "بضع مئات" كما قيل دوماً، عبّر بريمر عن خشيته من "أننا سنواجه تزايدا في الهجمات وتزايدا في الارهاب لأن الارهابيين يرون بوادر نجاحنا في اعادة الاعمار. المشكلة ستتفاقم في الشهور المقبلة ما لم تتحسن معلوماتنا الاستخباراتية". وعبّر عن ادراكه بأن أمامه "مهمة تاريخية" هدفها "اقامة عراق جديد". واعتبر ان "نتائج فشلنا ستكون بالغة الخطورة، أما بالنسبة للعراقيين فهي قاتلة، وربما لن تقل عن ذلك بالنسبة للشرق الأوسط". وكان بريمر استدعي على عجل الى واشنطن للتباحث مع بوش في كيفية التسريع في انهاء الاحتلال، بعد التراجع الكبير في تأييد الأميركيين لسياسة الرئيس تجاه العراق. وبعد عودته عقد بريمر اجتماعا من خمس ساعات مع مجلس الحكم، الذي فشل حتى الآن في البرهنة على فاعليته السياسية أوالاتفاق على قائد وطني له ما يكفي من التأييد. وتقضي الخطة الجديدة، التي اعلنت عشية زيارة الرئيس بوش السيئة التوقيت الى بريطانيا، بتنحية مجلس الحكم لصالح حكومة انتقالية يختارها مندوبون الى مؤتمر وطني، على ان تلي ذلك انتخابات عامة ثم تدوين الدستور. لا شك أن بريمر يأمل بأن النهاية الرسمية للاحتلال ستقود الى تراجع الارهاب. لكن النتيجة التي لا تقل عن ذلك ترجيحا ان الارهابيين سيرون ذلك مؤشرا على قرب انتصارهم على الأميركيين واخراجهم من العراق، تماماً مثلما تم اخراج السوفيات من أفغانستان. * سياسي بريطاني من حزب المحافظين.