مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التركية يزداد الضغط على حزب العدالة والتنمية الحاكم لاتخاذ تدابير حاسمة ضد حزب العمال الكردستاني. ولقد تحول الموقف الاخير تجاه الحزب وتجاه المطالب التي يحملها واساليب العمل التي ينتجها الى مسألة محورية في الانتخابات التركية. فالاتراك يتهمون الحزب الكردي بأنه يريد تفكيك الدولة التركية لاقامة دولة كردية مستقلة وبأنه يستخدم وسائل ارهابية لتحقيق اغراضه. وتمسك الاحزاب التركية المعارضة هذا الاتهام كي تضعه على عتبة حكومة حزب العدالة والتنمية الاسلامية اذ تتهمها بأنها مقصرة في محاربة العمال الكردستاني. وتنفي حكومة اردوغان هذا الاتهام الذي اخذ يؤثر على تأييد الرأي العام لها مؤكدة عزمها على وضع حد لنشاط العمال الكردستاني. ان تحقيق هذه الغاية يقتضي، كما يؤكد قادة الجيش التركي، تدخلاً عسكرياً واسع النطاق ضد قواعد ومقرات العمال الكردستاني في شمال العراق. حكومة اردوغان تقر مثل هذه الاستراتيجية من حيث المبدأ، الا انها تحاول تأجيل تنفيذها الى ما بعد الانتخابات الرئاسية التي ستجري في الثاني والعشرين من هذا الشهر. فالحزب الحاكم يفضل ان تجري هذه الانتخابات بمعزل عن تفاعلات المسألة الكردية. ويعتقد ان زعماء الحزب الحاكم يخشون ان تتعثر الحملة العسكرية اذا ما نفذت قبل الانتخابات فيضعف حظهم في ايصال مرشح لهم للرئاسة. هذا الاحتمال يفسر، في نظر معنيين بالاوضاع التركية، موقف حكومة اردوغان تجاه استراتيجية مكافحة حزب العمال الكردستاني. غير ان اكثر التحليلات المتعلقة بهذا الشأن ترجح ان يكون السبب الاكثر اهمية وربما الحاسم لسياسة التأني التي تتبعها حكومة اردوغان هو موقف ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش تجاه هذه المسألة. الموقف الرسمي لادارة بوش لخصه منذ شهر تقريباً غوردون جوندرو، الناطق الرسمي باسم البيت الابيض، بقوله ان ادارة بوش تشعر بالقلق"... حيال حزب العمال الكردستاني واستخدامه شمال العراق ملاذاً آمناً"وانها سوف تواصل"... العمل مع الحكومتين التركية والعراقية للتعامل مع هذا التهديد". الا ان هذا الموقف المتحفظ والقابل لتفسيرات شتى لا يتناسب، كما يلاحظ معنيون بالسياسة الاميركية الخارجية، مع الاهمية المطلقة التي تعطيها تلك الادارة للحرب على الارهاب الدولي، ولا يوازي حجم الاتهامات الموجهة الى حزب العمال الكردستاني. اخيراً لا آخراً فإن الموقف الاميركي الاخير من العمال الكردستاني يبدو مختلفاً الى حد بعيد عن المواقف التي تتخذها الادارة الاميركية تجاه بعض المنظمات الاخرى العاملة في المنطقة والتي يصنفها المسؤولون الاميركيون كمنظمات ارهابية. فإدارة بوش لا تنفك تؤكد ان الحرب على الارهاب الدولي تحتل اولوية مطلقة في سياستها الخارجية. والادارة الاميركية الحالية تعتبر هذه الحرب، كما جاء في توضيحات متعددة قدمها الرئيس الاميركي ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس، اساساً لاحتلالها للعراق. وادارة بوش تعتبر هذه الحرب اساساً لسياستها تجاه بعض المنظمات مثل"حزب الله"في لبنان و"حماس"وعدد من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في فلسطين. وفي هذا السياق لم يعد سراً ان ادارة بوش ايدت الحرب التي قامت بها اسرائيل ضد لبنان وضد"حزب الله"قبل عام، وضمنت للاسرائيليين شبكة امان ديبلوماسية كي تواصل حربها لأسابيع املا في الاجهاز على المقاومة اللبنانية. حتى نفهم موقف اداة بوش تجاه حزب العمال الكردستاني، لا بد من الاشارة الى ان موقف الادارة الاميركية تجاهه مر بمرحلتين على الاقل. فخلال الثمانينات وحتى الاحتلال الاميركي للعراق، اتسم الموقف الاميركي تجاه العمال الكردستاني بالتشدد. وفي تلك المرحلة صُنف الحزب بأنه منظمة ارهابية. وتبنى الاتحاد الاوروبي وحلف الاطلسي هذا التصنيف. وتم تحميل الحزب مسؤولية تصفية ألوف الاكراد الذين صنفهم العمال الكردستاني ب"المتعاونين"مع السلطات التركية. فضلا عن ذلك، فقد اتهمت الادارة الاميركية وحكومات اوروبية خلال الثمانينات العمال الكردستاني بأنه استخدم قواعده في منطقة البقاع في لبنان للانخراط النشيط في تجارة المخدرات وفي تصدير بعض مشتقاته الى دول الغرب، حتى ان السلطات الفرنسية اعتبرته مسؤولاً عن تسويق ثمانين في المئة من الهيرويين في سوق المخدرات الباريسية. بلغ التشدد الاميركي ازاء حزب العمال الكردستاني ذروته عام 1999. ففي ذلك العام، وبعد ان تفاقم نشاط الحزب العسكري في تركيا، وازدادت شعبيته بين الاكراد داخل تركيا وخارجها، اعتبرت القيادة العسكرية التركية انه لم يعد من مجال للتهاون معه وانه لا بد من توجيه ضربة قاصمة اليه. وتبلور ذلك التصميم بتوجيه انذار الى الحكومة السورية التي كانت تدعم العمال الكردستاني حتى تخرج عبدالله اوجلان، الزعيم القوي للعمال الكردستاني، من البقاع وتغلق كل قواعد التدريب والتمركز والخطوط اللوجستية التي اقامها الحزب في تلك المنطقة. ووقفت الادارة الاميركية آنذاك الى جانب هذا الانذار. ولما وجدت دمشق انه لا بد من الاستجابة الى الانذار التركي واضطر اوجلان الى التنقل بين عدد من الدول الاوروبية والافريقية، تولت وكالة الاستخبارات التركية مطاردته حتى تمكنت من اختطافه من الاراضي الكينية واعادته الى تركيا. اسفرت تلك العملية المشتركة عن نتائج مباشرة مهمة. فخوفاً من تنفيذ حكم الاعدام الذي اصدرته محكمة عسكرية تركية على اوجلان، اعلن العمال الكردستاني هدنة من جانب واحد. كذلك اتجه الحزب الى ادخال بعض التعديل بقصد تلطيف صورته في العواصم الغربية. واستمر الحزب في هذه السياسة الى عام 2004، اي الى ما بعد الاحتلال الاميركي للعراق وترسيخ اوضاع الاحزاب الكردية في شمال العراق. ففي ضوء هذه الاوضاع المستجدة، اعلن العمال الكردستاني الذي كان قد حافظ على تشكيلاته العسكرية، انتهاء الهدنة مع انقرة واستأنف نشاطه المسلح ضد اهداف تركية عسكرية ومدنية. وتفاقم هذا النشاط في الآونة الاخيرة الى درجة اثارة المؤسسة العسكرية التركية وقطاع واسع من الرأي العام التركي وصولا الى ارباك حكومة اردوغان نفسها. ولقد حاولت حكومة العدالة والتنمية احتواء مضاعفات تصاعد اعمال حزب العمال عن طريق ممارسة الضغط على القيادات الكردية في شمال العراق بارزاني وطالباني لوضع حد لهذه الاعمال، الا ان هذه الضغوط لم تسفر عن نتائج محددة. فالعمال الكردستاني الذي يعتبر نفسه طليعة الاكراد اينما كانوا، يمتلك شعبية قوية في شمال العراق تشحذها عصبية قومية متنامية. هذا لا يعني ان القيادات الكردية في شمال العراق غير قادرة على وضع حد لنشاطات العمال الكردستاني هناك. فعلى رغم التعاطف مع هذا الحزب ورغم البأس الذي اظهره مقاتلوه والاسلحة التي يمتلكها، فإن ميزان القوى في شمال العراق لا يزال يميل، كما تقول تقارير عسكرية، الى جانب القوات التابعة لبارزاني وطالباني في اية مواجهة محتملة مع العمال الكردستاني. الا ان الزعماء الاكراد في الشمال يجدون ان الاقدام على مثل هذا العمل سوف يضع منطقتهم امام احتمال حرب اهلية يصعب حسمها بسهولة. وهذا الاحتمال يسبب خسارة كبيرة للقيادة الكردية ولمشاريعها في العراق وخارجه. ولكن اذ يمسك القادة الاكراد في شمال العراق عن تحمل مثل هذه الخسارة البالغة، الا يخشون ان تجرد انقرة سيفها العسكري البتار مرة اخرى لمطاردة حزب اوجلان ومعاقبة من يحمونه كما فعلت عام 1999؟ الا يخشى القادة الاكراد في شمال العراق ان يفعل الاتراك ما فعله الاسرائيليون قبل عام عندما ألحقوا دمارا هائلا بلبنان لأنه احتضن"حزب الله"؟ الا يخشى الزعماء الاكراد في شمال العراق ان يدفع الاتراك بجيشهم القوي الى زرع الموت والدمار، فضلا عن بذور الحرب الاهلية كما فعل الاسرائيليون في الاراضي الفلسطينية التي احتضنت هي الاخرى منظمات اتهموها ب"الارهاب"؟. ان ردود فعل القادة الاكراد في شمال العراق تدل على انهم لا يحسبون حسابا كبيرا لمثل هذه الاحتمالات، ولا يعقدون مثل هذه المقارنات. ففي مواجهة التهديدات التركية، يستطيع هؤلاء الزعماء الاعتماد على تدخل ادارة بوش التي لا ترضى بأن يحل بالاوضاع الكردية في شمال العراق ما حل بلبنانوفلسطين من انقسامات ومصاعب ودمار. كذلك لا ترضى واشنطن ان تتعرض القيادة الكردية في الشمال الى الاحراج الذي تعرضت له دمشق عام 1999. واذا كانت ادارة بوش تشعر ب"القلق"ازاء نشاط العمال الكردستاني، فإن هذا القلق لم يصل الى درجة اعطاء انقرة الضوء الاخضر هذه المرة لاعلان الاستنفار ضد حماة هذا الحزب. صحيح انه صنف بأنه حزب ارهابي، وبأنه تاجر بالمخدرات وبأنه حزب ماركسي - لينيني. الا ان محاربة المنظمات الارهابية لا تعود اولوية مطلقة اذا امكن توظيفها ضمن مشاريع الهيمنة. ألا تتحدث تقارير متعددة عن تعاون متنام بين بعض الاجهزة الاميركية من جهة، وبين حزب العمال الكردستاني من جهة اخرى يشمل الاكراد في ايران وسورية؟! * كاتب لبناني